الحذر من الخداع الأمريكي
أخذ الخداع مساحةً كبيرة في السياسة الأمريكية، وبلغ أبعادًا خطيرة وشديدة الفجاجة، منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض.
يعتبر ترامب توقيع الاتفاقيات مع الدول الأخرى، والقيام بإجراء المفاوضات لحل القضايا، أعمالًا من أعمال الخداع، لا من أنماط تسوية النزاعات والخلافات بين الدول. وبذلك، لم تعد التصريحات أو الشائعات وحدها أدواتٍ للخداع والحرب النفسية – كما كان الحال في السابق – بل أصبحت الاتفاقيات الدولية، ووسائل وآليات التفاوض، وتوقيع رئيس الولايات المتحدة عليها، ضمن وسائل الخداع أيضًا، وهو أمر يهدر القوانين الدولية ويشيع مناخًا دوليًا خطيرًا.
ولذا، يرفع قادة العالم والساسة والمفكرون الأمريكيون درجة الحذر والتوجس إلى حدها الأقصى، حين يكون الأمر متعلقًا بالتعامل مع ترامب وإدارته.
وزاد الطين بلةً أن بات متعارفًا على أن الرئيس الأمريكي يكذب ويكذب، ثم يكذب.
منذ وصول ترامب إلى الحكم في الولايات المتحدة، وهو يطلق التصريحات الكاذبة بالآلاف – حسب وسائل الإعلام الأمريكية – كما يطلق التصريحات وعكسها أو نقيضها بعد ساعات، وهو ما أدى إلى فقدان الثقة، وعدم توافر ما يمكن البناء عليه بشأن مواقف هذا الرئيس وإدارته.
وقد بلغت الأمور حد الفجاجة في الكذب خلال الدورة الحالية من رئاسته. وفي ذلك، يبدو استمرار ادعاء ترامب بأنه من أوقف الحرب الهندية–الباكستانية نموذجًا لفجاجة تلك الأكاذيب، إذ ردّ رئيس وزراء الهند على تلك الكذبة بالقول عدة مرات إن الحرب توقفت مع باكستان عبر اتصالات مباشرة تمت دون وسطاء بين الجيشين الباكستاني والهندي، وأن لا دور لترامب في وقف الحرب. ووصل الأمر حد القطيعة بين الرجلين بسبب تكذيب رئيس الوزراء الهندي لتصريحات ترامب أمام البرلمان الهندي دون مواربة.
هذا التقدير، لا شك، يلقي بظلال قاتمة على ما أطلقه ترامب بشأن ما وصف بمبادرة إنهاء الحرب في غزة.
ويزيد من هذا الشك والقلق أن الطرف الآخر، الذي يحكم الكيان الصهيوني – نتنياهو – هو صنف آخر من ذات النوع؛ فهو يكذب ويتراجع عن الاتفاقات مثل ترامب. فكيف إذا كان نتنياهو يتعامل مع الشعب الفلسطيني وفق قاعدة أن كل شيء مباح: من قتل الأطفال والنساء والشيوخ، إلى حد إبادة شعب كامل؟
وكذلك، لأن بنود المبادرة تمنح ترامب ونتنياهو مساحات مفتوحة للحركة والتلاعب، لتحقيق هدف تحويل دور الاتفاق من وقفٍ لحرب الإبادة إلى أداةٍ لتحقيق كل الأهداف الصهيونية والأمريكية المعلَن عنها منذ بدء هذا العدوان الذي استمر نحو عامين.
لقد كان ضروريًا، وبإلحاح، اتخاذ المقاومة قرارًا بالتوقيع على اتفاقٍ يوقف حرب الإبادة، ويوجه ضربةً حاسمة لمخطط التهجير، ويفتح المعابر لدخول الغذاء والدواء، ويطلق سراح قادة فلسطينيين وكوادر سياسية وعسكرية من السجون الصهيونية. وهذا ليس موقفًا جديدًا، إذ هو موقف المقاومة منذ بداية العدوان.
كما كان ذلك ضروريًا لأبعاد إنسانية وسياسية فلسطينية، بل أيضًا بحكم الأوضاع العربية. كما يمكن القول إنه كان ضروريًا بعدما أنجز “الطوفان” أهم أهدافه على صعيد الاعتراف الدولي بالمقاومة كحركة تحرير وطني، وعلى صعيد عَزلة إسرائيل، ولِما حققه من هزّ صورة الجيش الصهيوني… إلخ.
غير أن مقترح ترامب قد صُمِّمت بنوده لوقف احتمال الوصول إلى حلٍّ للقضية الأصل – قضية احتلال فلسطين – بل لحلّ مشكلة إسرائيل، وهي نزع سلاح المقاومة. كما أن بنود مقترح ترامب تسعى لوضع غزة تحت الوصاية الدولية – أو الغربية – وتستهدف إنزال قوات دولية – أو غربية – على الأرض الفلسطينية.
ولذا ينبغي الحذر، بل كل الحذر.
ويزيد من ضرورة الحذر أن الاتفاق الذي أُعلن عنه في مدينة شرم الشيخ المصرية، يقضي بتسليم جميع الأسرى الصهاينة لدى المقاومة في المرحلة الأولى من تنفيذ الاتفاق، بما يحقق أهم أهداف نتنياهو على صعيد تلميع صورته أمام الرأي العام الصهيوني، وهو أمر يسحب تلك الورقة المهمة من يد المقاومة، ويفتح مساحاتٍ من الوقت للتلاعب ببقية مطالب الشعب الفلسطيني. وحسب آراء الخبراء، فإن هذا التقديم لتسليم الأسرى قد ينتج عنه عودة نتنياهو لشنّ حرب الإبادة.
الحذر الحذر، فإذ المؤكد أن الحرب الحالية انتهت، فمن المؤكد أيضًا أن الصراع مستمر، وسيستمر.
