تقسيم السودان من حمدوك إلى حميدتي
تمكنت ميليشيات حميدتي من السيطرة على مدينة الفاشر بدارفور في غرب السودان، وتحركت لاحتلال المناطق التي سبق للجيش السوداني إخراجها منها في كردفان. وقبلها كانت تلك الميليشيات قد وجهت ضربات بالطيران المسيّر للعاصمة الخرطوم والعديد من ولايات شرق السودان، مستهدفة البنية الأساسية من مطارات ومحطات كهرباء ومرافق.وعلى الفور، تحركت الولايات المتحدة وبريطانيا للمطالبة بوقف إطلاق النار، والدخول في مفاوضات، بهدف تحويل هذا المكسب العسكري إلى مكاسب سياسية، إذ مثل تلك المفاوضات ستجري –كما هو معلوم للجميع– على أرضية المساواة والندية بين الحكم الشرعي في السودان والميليشيات المتمردة عليه، وستنتهي إما إلى تفكيك السودان أو تغيير هوية المجتمع والدولة عبر مشاركة التمرد في إدارة الدولة.
وهكذا، إذ فشلت محاولة “حمدوك” التي استندت إلى تحركات قامت بها مجموعات ممولة منظمة في الشوارع، جاؤوا بـ”حميدتي” لتنفيذ نفس الأهداف بالقوة والقتال وأعمال الإبادة والتهجير.
ما يجري ليس أمرًا مستجدًا، بل هو مرحلة ضمن مسلسل طويل مرّ به السودان، لكنها لن تنجح هذه المرة، إذ يملك السودان معالم قدرة تمكنه من مواجهة مخططات هذه المرحلة.
منذ ظهور السودان المستقل في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، وهو ضحية مخطط استراتيجي بعيد المدى سطّره المستعمر البريطاني ووضع أسس حركته منذ وطأت أقدامه أرض السودان في ثمانينات القرن التاسع عشر، وما تحقق من فصل الجنوب عن الشمال وتشكيل دولة جنوب السودان في عام 2011، قد وُضع أساس حدوثه في عام 1922 حين أصدر المستعمر البريطاني قانون المناطق المغلقة في جنوب السودان، لمنع حركة أفراد الشمال إلى الجنوب إلا بتصريح رسمي، ومنع الزواج بين شماليين وجنوبيين، ووصل الأمر حدّ منع ارتداء أبناء جنوب السودان للجلباب والعمامة التي يرتديها المواطنون في شمال السودان. كما تقرر أن تكون الإنجليزية هي اللغة الرسمية في المكاتبات الرسمية في الجنوب في مواجهة العربية في الشمال.
وقبل أن ينتهوا من فصل الجنوب رسميًا –بعد قرن من الزمان– كانوا قد وضعوا الأساس لفصل دارفور وأجزاء من كردفان. لقد أسسوا العديد من ميليشيات المرتزقة في دارفور، ودعموها بالمال والسلاح، كما أسسوا ما سمي بالحركة الشعبية فرع الشمال في مناطق بجنوب كردفان، كامتداد للحركة الشعبية التي سيطرت وباتت تحكم جنوب السودان!
وما حدث هو أن نظام الحكم الذي كان قد ساوم في قضية الجنوب –وقبل تحت الضغط بانفصاله– رفض المساومة على انفصال دارفور، ونجح فعليًا في كسر شوكة التمرد بالجمع بين تبديد قوة بعض الميليشيات وعقد مصالحات مع البعض الآخر.
وكان لقوات الدعم السريع –وقتها– دور كبير في هزيمة هذا التمرد.
ولما جرى التمرد والتحرك في شوارع العاصمة لإسقاط الحكم ضمن تحركات ما سمي بالربيع العربي، ما كان من الحكم –حفاظًا على الجيش أو خوفًا منه– إلا أن نقل نشاط الدعم السريع ومنحها دورًا كبيرًا في حماية مقرات الحكم بل حتى معسكرات الجيش.
ومرة أخرى لعبت قوات الدعم السريع دورًا في تلك المواجهة، بما فتح أبواب الطموح لديها للمشاركة في الحكم كقوة موازية للجيش، وهو ما ترافق مع عمليات اختراقها من قبل أطراف خارجية.
فشلت محاولة تمرد الشارع وانتهت لعبة حمدوك –الذي وصفه الإعلام السوداني ببرادعي مصر– وكان البديل هو تحريك الدعم السريع للانقلاب على الحكم. وهذا ما حدث.
عاشت العاصمة والعديد من الولايات تحت وقائع نهب وسلب واغتصاب قامت بها عناصر تلك الميليشيا.
لكن الجيش صمد وتمكن من طرد الميليشيا من الخرطوم وقام بمطاردتها مسجلًا انتصارات متتالية، حتى أصبح القضاء عليها مسألة وقت، فكان أن جلبوا مرتزقة للقتال إلى جانب الميليشيا وقاموا بتسليحها بالطيران المسيّر، وبذلك تمكنت من السيطرة على الفاشر في دارفور، وتتحرك للسيطرة على ما كان الجيش قد حرره من ولايات كردفان.
هنا بدأ الحديث عن وقف النار وبدء المفاوضات، ليكون السودان أمام سيناريو التقسيم الفعلي على غرار ليبيا، أو سيناريو قبول الحكم بمشاركة الدعم السريع في إدارة الدولة والمجتمع.
ولذلك، فالسؤال المحوري هو: هل يتمكن الحكم في السودان من استنهاض وحشد المواطنين والجيش لهزيمة تلك الميليشيات والقضاء عليها؟
يبدو أن الحكم والجيش ما يزالان على موقفهما الذي مكنهما من طرد تلك الميليشيات من الخرطوم وجوارها. كما تظهر تطورات الأحداث أن الدولة تتحرك وفق خطة استراتيجية وطنية تمكنها من تحقيق الانتصار.
كما بات واضحًا أيضًا أن أطرافًا عربية وإسلامية باتت تشعر بالخطر، وقررت التحرك لدعم الجيش السوداني.
وهكذا يمكن القول إن التمرد لن يفلح هو ورعاته الإقليميون والدوليون في تحقيق فصل دارفور كما نجحوا في فصل الجنوب، ولن يتمكنوا من إشراك تلك الميليشيات في إدارة الدولة والمجتمع.
