أخبار الرافدين
طلعت رميح

تغييرات حاسمة في رؤية أمريكا لنفسها والعالم!

نشرت إدارة ترامب ما سمّي «وثيقة الأمن القومي»، فجاءت الأغرب بين مثيلاتها التي صدرت عن كل الإدارات الأمريكية. ومن قرأ وثيقة إدارة ترامب يلحظ أنها كُتبت بنفس اللغة التي يتحدث بها، وأنها افتقدت الرصانة المعتادة في طرح التوجهات العامة، وغاب عنها «نفس» مراكز الأبحاث والدراسات، ولم ترد فيها المعطيات التي تُصرّ على ذكرها الدولة الأمريكية العميقة دومًا. وأنها لم تخرج عن مجرد بيان توضيحي بتوجهات السياسة الخارجية المستمدة من تصريحات ترامب – وما أكثرها – وأنها أصدق تعبير عن محدودية كفاءة من عيّنته إدارته من رجال أعمال ومقاولين في المواقع الأساسية لإدارة الدولة، ومن شخصيات مغمورة رُفعت لأعلى وأخطر المسؤوليات، كما هو حال وزير الحرب.
ويلفت النظر في تلك الوثيقة أنها عبّرت عن تغيير كبير في ما تعلنه أمريكا عن نفسها. فإذا نظرت الوثائق السابقة للأمن القومي للدور الدولي للولايات المتحدة – وآخرها وثيقة الأمن القومي خلال حكم بايدن – باعتباره دور دولة تتولى قيادة نظام دولي ليبرالي يدافع عن حقوق الإنسان وينشر الديمقراطية – وهو توصيف مزيف ودعائي – في مواجهة الديكتاتوريات؛ فقد انتفى هذا التوجه في الوثيقة، وحلَّ محله رؤية تتحدث عن توسيع التحالفات والمؤسسات متعددة الأطراف. لقد انتفى الطابع الأيديولوجي المعتاد في وصف الصراع مع الصين باعتباره صراعًا ضد الديكتاتورية، كما جرى شن هجوم مركز على أوروبا التي كانت الحليف الموثوق في الصراع الدولي بين الليبرالية والديكتاتورية.
لقد تأكد هذا التغيير حرفيًا في توصيف الوثيقة للعلاقات الأمريكية الأوروبية، إذ يمكن القول إن الوثيقة جاءت كإعلان حرب على أوروبا – الحليفة لها منذ الحرب العالمية الثانية وصاحبة السبق في طرح الأفكار الليبرالية والديمقراطية تاريخيًا – وعلى صيغة الاتحاد الأوروبي الحالية، وعلى الحكومات والنظم السياسية الأوروبية. ووصل الضغط الأمريكي حد التلويح بوقف الدعم الأمريكي للناتو الذي يحمي أوروبا.
لقد حذرت الوثيقة من محو حضاري لأوروبا بسبب فتح أبواب الهجرة، وأبرزت تخوّفًا من احتمال أن تصبح غالبية أعضاء الناتو من دول «غير أوروبية» خلال العقود القادمة. وطالبت بإعادة هيكلة النظام الأوروبي ليقوم بين دول ذات سيادة، بدلًا من محاولة الدمج الحادثة الآن. وكان لافتًا اتهام الوثيقة للدول الأوروبية بأنها غير ديمقراطية وأن نظمها ونخبها الحاكمة تستخدم وسائل ديكتاتورية لمنع التيارات اليمينية من الوصول إلى الحكم. وهكذا سقط معيار التحالف الذي كان معتمدًا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية مع أوروبا، باعتبار طرفي الأطلسي مشتركان في تحالف يقوم على الرأسمالية والليبرالية والديمقراطية.
ولقد غيّرت الولايات المتحدة من توجهها الدولي على صعيد تركيز قوتها على الصعيد الجغرافي؛ فقد أشارت الوثيقة بوضوح إلى نقل تركيز قوتها من أوروبا – بشكل خاص – إلى أميركا اللاتينية أو ما وصف بنصف الكرة الغربي. وعن العودة إلى مبادئ مونرو التي أشارت إلى التركيز على دول الجوار من دول أمريكا اللاتينية والكاريبي باعتبارها مناطق نفوذ مباشر، وبالدقة مناطق لا يجب أن يكون بها نفوذ لأي من الدول الكبرى. وهي مبادئ جرى وصفها بالانعزالية باعتبارها ارتبطت بالانكفاء إلى الإقليم، وقد جرى تبنيها لمنع تمدد دول الاستعمار الأوروبي في الأميركتين. وها هو ترامب يعتمدها الآن سياقًا لسياسة خارجية أمريكية انعزالية، وهو ما يعني أنه سيخوض صراعات حادة ضد الدول التي بنت اقتصاداتها وعلاقاتها السياسية مع كل من روسيا والصين. وقد نكون أمام محاولة أمريكية تعتمد الضغط والتهديد ضد كل من كندا والمكسيك تحت عنوان مواجهة النفوذ الدولي في هذا الإقليم.
ووفقًا لما ورد في الوثيقة، فهناك تغييرات أخرى؛ بعضها يتعلق باحتواء إيران، وبعضها يتعلق بروسيا التي تغير وصفها كليًا ولم تعد خطرًا كما كان حالها في وثيقة حكم بايدن. وكذلك، فالشرق الأوسط بات ذا أهمية متراجعة.
لكن الأهم من كل ذلك هو كيف نتعامل مع تلك الوثيقة:
فهناك أن من يحكم أمريكا الآن رئيس لا يلتزم بالمعايير المتعارف عليها؛ فهو يتحدث عن السلام وعن رفضه للحروب ويزعم أنه أنهى سبع أو ثماني حروب، فيما هو يخوض حروبًا إجرامية ويمنح القادة العسكريين حرية القتل دون الرجوع للقيادة. هو قصف اليمن، وقصف إيران، ويقصف المدنيين في فنزويلا، وشارك في حرب تدمير غزة، وأعلن مرارًا وتكرارًا عن تهجير أهلها!
وهناك – وهو الأهم – أن مبادئ مونرو التي وُصفت بالانعزالية انتهت إلى اندفاع أمريكا للدخول في الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأنه ليس مستبعدًا أن تكون الولايات المتحدة، التي وضعت الأساس لاندلاع حرب إقليمية كبرى في آسيا بين الصين والفلبين واليابان وكوريا الجنوبية، ووضعت الأساس لحرب مدمرة في أوكرانيا تتصاعد احتمالات توسعها إلى حرب بين روسيا وأوروبا، تنسحب الآن لتعود للتدخل بعد اندلاع هاتين الحربين وإنهاك أطرافهما لتحصد كل المكاسب، على غرار ما حدث في الحرب العالمية الثانية!
وللحديث بقية.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى