أخبار الرافدين
طلعت رميح

أوروبا بين تحقيق الاستقلال وتحدّي البقاء؟

باتت أوروبا عالقة في مأزق استراتيجي. هي مطالبة بالبحث عن استقلالها، وأمام ضرورة اتخاذ قرار يتعلق ببقائها. فسبحان مغير الأحوال.أوروبا الاستعمارية التي لم تترك بقعة في العالم إلا واحتلتها، ولم تترك شعبًا إلا وقمعته وسرقت ثرواته، دارت الأيام عليها، وأصبحت مطالبة بالعمل لتحقيق استقلالها، وباتخاذ قرار مصيري في مواجهة تحدّي بقاء شعوبها على قيد الحياة!
بوتين، إذ قال إن روسيا لا تنوي مهاجمة أوروبا، فقد عاد وهدد بإنهاء وجودها. قال إن أوروبا إذا أرادت الهجوم على روسيا، فروسيا جاهزة للحرب، لكن مشكلتها أنها لن تجد من تتفاوض معه في أوروبا بعد انتهاء الحرب.
وترامب، الذي سبق وأن وصف أوروبا بالعدو الاقتصادي، تحدثت استراتيجيته للأمن القومي عن أن أوروبا معرضة للمحو الحضاري بسبب موقفها من الهجرة، ووصفت دول أوروبا بالديكتاتورية وغير الديمقراطية، وأعلنت أن الإدارة الأمريكية ستتدخل في الشأن الداخلي لأوروبا لدعم التيارات اليمينية أو الشعبوية، وطالبت أوروبا بتغيير صيغة الاتحاد الأوروبي الحالي ليصبح بين دول ذات سيادة.
وعلى الصعيد السياسي الداخلي، فمعظم دول أوروبا «لم تعد تعيش لها حكومات». لم يعد هناك تيار فكري وسياسي قادر على صناعة استقرار حكومي وإنفاذ خطط مستديمة. لقد تراجع تيار الوسط الذي حكم أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية لمصلحة التيارات الفوضوية والشعبوية والعنصرية، التي تشيع مناخًا عميقًا من تفكيك حالة الإجماع الوطني، وتهدد كل الدول الأوروبية باضطرابات اجتماعية بسبب دعوتها ومطالبتها بطرد المهاجرين.
وعلى الصعيد الاقتصادي، فأوروبا تتراجع معدلات نموها، وتتضاعف عمليات إفلاس الشركات في داخلها، ويتراجع نصيبها في التجارة الدولية، والأخطر أن تصاعدت معدلات الديون الخارجية، وباتت في طليعة الأمم المدينة، حتى باتت اقتصادات دولها في حالة استنزاف دائم، وكأنها من دول العالم الثالث. كما أن اليورو يعيش أخطر لحظات تاريخه.
وعلى الصعيد القيمي، فالأمراض الاجتماعية إلى تفاقم، ورفض التجنيد الإجباري في الجيوش إلى تصاعد، والتهديد بتفكيك الدول إلى كيانات متناحرة يطل برأسه في كثير من دول الاتحاد. كما تعاني كل الدول من تراجع نسب المواليد إلى درجة تراجع أعداد السكان.
وهكذا أصبحت أوروبا في وضع المتراجع والمهدد بعدم البقاء، من خارجها ومن داخلها، وفي وضع الساعي للاستقلال من تحت قبضة الهيمنة، بل الاحتلال الأمريكي، ووضع القلق من احتمالات المواجهة مع روسيا. وبمعنى آخر، فأوروبا في مأزق استراتيجي شامل، وتعيش وضعية حيرة وانكسار.
هي لا تستطيع مواجهة روسيا إلا بالاعتماد على الولايات المتحدة، إذ لا تملك جيوشًا ولا اقتصادًا يمكنها من الاعتماد على نفسها في تلك المواجهة، وهي إن اعتمدت على الولايات المتحدة في تلك المواجهة ستكون مجبرة على الاستجابة لمطالبها التي تستهدف إعادة تشكيلها سياسيًا ووطنيًا، سواء على الصعيد الداخلي أو على صعيد الكيان الأوروبي!
وهي لا تستطيع انتزاع استقلالها من الولايات المتحدة إلا بالمصالحة مع روسيا، التي تهددها بالفناء! وإن ذهبت في هذا الاتجاه ستكون خسارتها كبرى، إذ سيكون لزامًا عليها تقديم تنازلات تتعلق بالموافقة على ضم روسيا لأراضٍ من أوكرانيا ومولدوفا – على الأقل – وربما أراضٍ أخرى، لتتمكن روسيا من تحقيق تواصل جغرافي غير خاضع للسيطرة مع إقليم كالينينغراد الروسي. والأغلب أن روسيا ستطالب بتراجع دول البلطيق عن الانضمام للناتو!
وهي إن ذهبت باتجاه الصين، وجدت نفسها في وضع المجبر على زيادة فتح أسواقها أمام طوفان الغزو الصيني اقتصاديًا، وستكون في مواجهة أشد قسوة مع الولايات المتحدة – التي ستعتبر أوروبا حليفًا للصين في مواجهتها – كما ستربط الصين بين إنقاذ اقتصادات أوروبا وحل المشكلات مع روسيا، وإنهاء المحاولات الجارية لتوسيع الناتو باتجاه اليابان وكوريا الجنوبية. وبطبيعة الحال ستطلب الصين موقفًا أوروبيًا قويًا ضد انفصال تايوان.
فماذا ستفعل أوروبا؟
حتى هذا السؤال ليس مناسبًا طرحه! ذلك أن أوروبا لم تصل بعد حد بناء الإرادة المشتركة، حتى تتمكن من تقديم إجابة موحدة قادرة على مواجهة مثل تلك التحديات.
وهذا هو أخطر ما تواجهه أوروبا. أوروبا ما تزال كيانًا لم يكتمل بناؤه بعد، والاتحاد الأوروبي يعج بالخلافات القومية وبخلافات التاريخ ونزاعات الجغرافيا بين دوله. ومثل تلك الأسئلة والتحديات تتطلب إجابات لا ينتجها الوضع الراهن!
ولذا فالأغلب أن تدور تحركات أوروبا داخل الدوامة، حيث لا حركة، سواء كانت التقدم إلى الأمام أو كانت التراجع المنظم إلى الخلف.
والاحتمالات الأرجح أن تشهد أوروبا تفككًا بطيئًا، ليس فقط لأن الولايات المتحدة ستتحرك في داخلها عبر عقد اتفاقيات دفاع مشترك مع دول أوروبا على حدة – خاصة بولندا ودول البلطيق – لتعزل أوروبا الشرقية عن الغربية، ولكن أيضًا لأن روسيا لديها مراكز نفوذ داخل بعض دول القارة، كما هو الحال في المجر وصربيا وغيرها.
أوروبا تحتضر، وإن بشكل بطيء.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى