أخبار الرافدين
د. مثنى حارث الضاري

فيض ذاكرة

خيارات إعادة بناء الدولة (3-3)
المرحلة الرابعة: ما بعد الانتخابات الأولى: وهي المرحلة التي تلت الانتخابات التي أجريت في (30/1/2005م) وشهدت نجاحًا واضحًا للقوى المناهضة للاحتلال في إثبات حجمها الحقيقي وبيان قوتها وعزمها على تحقيق ما التزمت به في بيان (17/11/2004م). فبعد بدء الكتل السياسية الفائزة بالانتخابات محاولة استثمار فوزها غير المكتمل من خلال الدعوة إلى المصالحة الوطنية ومشاركة القوى المقاطعة في صياغة الدستور؛ قامت مجموعة من هذه القوى بعقد لقاءين تشاوريين أسفرا عن عقد لقاء ثالث موسع تمّ فيه الإعلان عن موقفها من هذه الدعوات الذي جاء على شكل نقاط سبع حددت فيه هذه القوى أسس تعاملها مع هذين الموضوعين، وتناولت فيها الأمور اللازمة في نظرها لحل المشاكل القائمة، وأكدت فيها ثوابتها المعلنة سابقًا وعلى رأسها: جدولة انسحاب قوات الاحتلال، والاعتراف بالمقاومة، وزادت عليها أمورًا أخرى لها مساس بملامح إعادة بناء الدولة في العراق على أسس صحيحة منها:

1- بيان عدم السماح للإدارة الناشئة عن الانتخابات إبرام أي اتفاقية أو معاهدة من شأنها المساس بسيادة العراق ووحدته أرضًا وشعبًا واقتصادًا والحفاظ على ثرواته.
2- اعتماد الانتخابات كخيار وحيد لتداول السلطة سلميًا، والعمل على تهيئة الأجواء والقوانين التي من شأنها إجراء العملية السياسية في أجواء نزيهة ومناسبة.
يؤشر ما تقدم الخيارات والبدائل المطروحة من هيئة علماء المسلمين -الممثلة لوجهة نظر علماء الدين- لبناء الدولة، سواء أطرحتها منفردة أم مجتمعة مع غيرها، وهي تتمثل في عدة خيارات يكمل بعضها بعضا ولا يمكن الفصل بينها أبدًا لمن يتصدى لبيان رأيه في هكذا موضوع مهم. وتنطلق هذه الخيارات من نقطة واحدة وهي إنهاء الاحتلال باعتباره العامل الأصيل الذي ولّد كل العوامل الأخرى، التي أسهمت في هدم الدولة العراقية وإشاعة حالة التلاشي المتسارع لمؤسساتها.
والخيارات المطروحة كما مر معنا في العرض المتقدم تقوم على الآتي:
1- التأكيد على خيار الوحدة الوطنية كعامل أساسي في بناء الدولة، وضابط رئيس لعقدها من الانفراط.
2- إجراء العملية السياسية على أسس صحيحة بعيدًا عن تدخل المحتل؛ الأمر الذي يضمن نزاهتها وحياديتها ومن ثم إسهامها الفاعل في إعادة تشكيل مؤسسات الدولة العراقية وصولًا إلى إعادة بنائها الكامل.
3- إعادة بناء المؤسسات الأمنية القادرة على حفظ الأمن وتيسير سبل العمل في المجالات الأخرى؛ من منطلقين:
الأول: هو غلبة الملف الأمني عل كل الملفات الأخرى وتأثيره المباشر على مجمل عملية إعادة البناء.
الثاني: الخلل الواضح في بناء هذه الأجهزة الذي جرى في ظل الاحتلال وتحت بصره، وهو خلل أسهم وما زال يسهم في تعطيل تنفيذ الخيارات الأساسية المطروحة لإعادة بناء الدولة.
هذه هي الخيارات العامة التي نعتقد أنها تلتقي تمامًا بإطارها العام هذا مع الخيارات الأخرى المطروحة في الساحة العراقية بغض النظر عن وصف القوى الطارحة لها ومنطلقاتها الفكرية وتوجهاتها السياسية؛ إذ إن التقارب بين ما تطرحه الهيئة هنا وما تطرحه القوى الأخرى ولا سيما القوى الداخلة في العملية السياسية؛ لا يكاد يختلف في الشكل العام فحدود التوافق كثيرة، ولكن المشكلة الأساسية في مدى صدقية هذا الطرح وجديته من الأطراف الأخرى؛ لأن هذه الخيارات تصطدم بقضية الموقف من الاحتلال الذي هو موقف مُختَلفٌ فيه بين الطرفين، ولم تفلح التخريجات السياسية والتأويلات الفكرية، ولن تفلح في إقناع أحد بخلاف ما هو معلوم بالضرورة من حال العراق المحتل.
ويتعزز هذا الاختلاف عند التطبيق العملي لهذه الخيارات على أرض الواقع؛ فقد أعطتنا تجارب الحكومة المؤقتة، ومن قبلها (المؤتمر الوطني)، والحكومة المشكلة من مجلس الحكم؛ أدلة كثيرة جدًا على خرق هذه المبادئ المعلنة، والسعي بوعي أو بدون وعي إلى هدم كل الأسس اللازمة لإعادة بناء دولة عراقية يطمح إليها الجميع؛ فقد تمّ التغاضي عن ضرورات سلامة العملية السياسية ونزاهتها في مقابل توافقات سياسية أبعد ما تكون عن مراعاة تأثيراتها الخطر على بنيان الدولة، وهذا ما حصل مع بناء الأجهزة الأمنية أيضًا، وأسفر الأمران عن الإخلال الفادح بالمبدأ الأساسي والخيار الأول وهو العمل على تعزيز الوحدة الوطنية.
وهكذا يظهر للعيان اختلاف الرؤى بين الخيارات المعلنة من القوى السياسية العاملة في الساحة السياسية العراقية في ظل الاحتلال وفي سياق نظامه السياسي، وبين خيارات القوى المناهضة للاحتلال كما عبرت عنها هيئة علماء المسلمين في العراق، في تلك المرحلة المتقدمة من عمر الاحتلال ومشروعه السياسي.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

شاهد ايضًا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى