أخبار الرافدين
د. مثنى حارث الضاري

فيض ذاكرة

العلماء في خدمة المجتمع (3-3)

جهود الهيئة ونشاطاتها
3- جانب النشاط السياسي
انخرطت الهيئة في نشاطات كثيرة منذ الأيام الأولى للاحتلال: ابتدأتها بالمظاهرات الاستنكارية والبيانات المنددة بالاحتلال، واتبعتها بالتجمعات الجماهيرية الكبرى، وكان أبرز شواهد عمل تلك المرحلة هي التظاهرات أمام مقر قوات الاحتلال في مدينة الأعظمية ببغداد، وأمام مقر قوات الاحتلال في ساحة الفردوس في مركز المدينة للمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين، ووقف حملات المداهمات التي كانت تشنها قوات الاحتلال بلا هوادة.

وتكللت هذه الجهود بالتجمع الكبير الذي أقامته الهيئة في مقرها العام بـ (جامع أم القرى) بتأريخ: (18/7/2003م) وحضره الآلاف من المواطنين من عدة محافظات في صلاة جمعة جامعة، للإعلان عن رفضها الواضح والصريح لأولى ثمرات العملية السياسية في ظل الاحتلال وهو مجلس الحكم الانتقالي. وتمّ التعبير عن هذا الموقف في بيان الهيئة الأول، وكلمات عدد من أعضاء الهيئة أمام الجماهير المحتشدة. وكان تجمعًا ضخمًا اهتمت به وسائل الإعلام اهتمامًا كبيرًا ونقلته بعض الفضائيات نقلًا مباشرًا، وأصبح مثالًا يحتذى لتجمعات أخرى كبيرة بين حين وآخر عندما تحزب الحاجة إليها.
واتسع نطاق عمل الهيئة بعد هذه المرحلة اتساعًا كبيرًا؛ حيث عملت بقوة على تأييد مشروع المقاومة المشتد حينها، ودعمه سياسيًا وإعلاميًا، وعملت على ملء الفراغ السياسي في الساحة الوطنية المناهضة للاحتلال، ونشطت في هذا المجال كثيرًا. ومن أبرز معالم هذه المرحلة، ما يأتي.
أ- المشاركة في وقت مبكر في الجهود الرامية إلى تشكيل جبهة وطنية عريضة لمناهضة الاحتلال؛ انطلاقًا من قراءة مبكرة بضرورة انخراط جميع العراقيين في هذا السبيل، وأسهمت الهيئة بفعالية طوال عدة أشهر في الاجتماعات التمهيدية للإعداد للمؤتمر التأسيسي العراقي الوطني المناهض للاحتلال، الذي أعلن عنه في (8/5/2004م)؛ ليكون إطارًا جامعًا لتنسيق جهود القوى الوطنية المناهضة للاحتلال. وعمل أعضاء الهيئة بجد في إطار فعاليات المؤتمر المختلفة، واحتضن المقر العام للهيئة عددًا من اللقاءات التنسيقية والاجتماعات المهمة للمؤتمر. ومن أبرز هذه اللقاءات الاجتماعات التشاورية الثلاثة عام (2004م) المتعلقة بالموقف من الانتخابات العامة، وتكللت هذه الاجتماعات بقرار المقاطعة الذي وقعت عليه أكثر من خمسين جهة دينية وسياسية ونقابية وعشائرية وشبابية وغيرها.
ب- عقد مؤتمر موسع للقوى الوطنية المناهضة للاحتلال بالتعاون مع المؤتمر التأسيسي وبعض القوى السياسية الأخرى المناهضة للاحتلال، للتباحث في شأن مشروع المصالحة الوطنية، والانتهاء إلى إصدار بيان أم القرى في (15/2/2005م) بعد نقاش مستفيض في المؤتمر أولًا، ومن ثم في لجنة الصياغة المكلفة بإعداد البيان الذي مثل الموقف الرسمي لهذه القوى من مشروع المصالحة المطروح من الحكومة وقتها، وضم هذا البيان سبعة أسس للمصالحة إذا أريد لها أن تكون مصالحة حقيقية، وعلى رأس هذه الأسس إنهاء الاحتلال.
وقد أظهرت الهيئة منذ تأسيسها اهتمامًا بالغًا بموضوع المصالحة الوطنية، وسبق لها أن بينت موقفها من هذه المصالحة في مناسبات عدة. وتقوم رؤية الهيئة في هذا السياق على طرح مشروع حل كامل للقضية العراقية وليس حلًا ترقيعيًا مقتصرًا على موضوع المصالحة كما تروج له أجهزة الحكومة، والتفرقة بين مفهومي المصالحة الوطنية (كمصطلح سياسي) درج على السنة أصحاب العملية السياسية الحالية ومفهوم (المصالحة الوطنية الحقيقية)؛ وتعود هذه التفرقة إلى ضرورة المحافظة على وطنية النسيج الاجتماعي الواحد للشعب العراقي، بعد انتشار الدلالات غير الصحيحة التي اشتمل عليها مفهوم المصالحة الحكومي، بعد انفلات الأمور وغلبة الأبعاد الطائفية على الحراك السياسي في ظل الاحتلال.
ويركز المفكر المغربي عبد الإله بلقزيز على هذا الجانب من نشاطات الهيئة الذي يراه الأكثر أهمية من وجهة نظره، وهو توفير الإطار المرجعي للبعد الوطني في العراق، الذي يعبر عنه هو بـ “النصاب التمثيلي للفكرة الوطنية”، قائلًا “توفر هيئة علماء المسلمين نصابًا تمثيليًا للفكرة الوطنية في العراق اليوم، وهي نهضت بهذا الدور منذ سنوات: غِب الاحتلال الأمريكي البريطاني لبلاد الرافدين، أي منذ أن انهارت المرجعية الكيانية الجامعة للعراقيين (الدولة) فامتنع تمثيل سياسي وطني أصيل، وانطلق سيل الولاءات الصغرى الجارف منفلتًا من عقال الاجتماع الوطني الواحد كي يغرق البلد وأهله في قعر لا قرار له من الانشقاقات الدموية”.
ويقارن بلقزيز بين تجربتي جمعية علماء المسلمين في الجزائر و(الهيئة) على هذا الصعيد قائلًا “كان أمام كلتا المؤسستين…: أداء الواجب نفسه، تجنيد الفكرة الدينية لخدمة المشروع الوطني، والرد على الاحتلال وسياساته، الاغتصابية، والتقسيمية، بتنمية موارد الشخصية الوطنية وحفظها من التبديد، وتجميع القوى وتكتيل الإرادات من أجل استعادة الوطن من براثن الاحتلال”.
ت- الموقف من الدستور: تلخص موقف الهيئة من موضوع الدستور في وثيقة أصدرها القسم السياسي في الهيئة أثناء النقاش المحتدم عن الدستور وحملت هذه الوثيقة عنوان: “الدستور وما ينبغي أن يكون عليه”، وخلصت هذه الوثيقة -بعد استعراض أهمية الدساتير، وما ينبغي لنجاح كتابتها من مستلزمات، وما ينبغي أن يراعى أثناء صياغتها، وما هي المستلزمات الضرورية لوضع الدستور المناسب- إلى عدم المشاركة في أي نشاط حكومي متعلق بالدستور، دُعيت الهيئة لذلك أم لم تدع؛ التزامًا بثوابتها الشرعية والوطنية المتمثلة في عدم مشاركتها في أي عملية سياسية في ظل الاحتلال؛ وذلك للحيلولة دون إضفاء الشرعية على أية عملية سياسية قد تُجمّل صورة الاحتلال البشعة، أو تسهم في بقائه في العراق، أو تكون غطاءً لما يترتب عليها من أخطاء دينية أو سياسية أو وطنية في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ العراق. وأصدرت الهيئة بهذا الشأن بيانات ومواقف عدة.
ولم تكتف الهيئة بذلك بل عقدت ندوتين في مقرها العام في جامع أم القرى؛ لبيان مخاطر هذا الدستور ودعت قوى سياسية وجهات قانونية لمناقشة الموضوع من كل جوانبه ومختلف أبعاده، وتمت إحداهما بالتنسيق مع نقابة المحامين العراقيين بتاريخ: (19/5/2005م)، تحت عنوان (الملامح العامة للدستور العراقي)، حضرها جمع كبير من ممثلي القوى المناهضة للاحتلال، والسياسيين، والقانونيين، ورجال الإعلام.
ثم اتبعت الهيئة ذلك باجتماع موسع للقوى السياسية لمناقشة الموقف من عملية الاستفتاء على مسودة الدستور، وتمخض الاجتماع الذي عقد في (أم القرى) عن موقف موحد ومنسق لمواجهة هذا الأمر بمقاطعة العملية بحسب رأي الهيئة وكثير من القوى المناهضة للاحتلال، والتصويت بـ (لا) لمن أراد المشاركة، وصدر بيان مشهور وقتها بهذا الشأن بتأريخ: (13/10/2005م).
وأخيرًا خاطبت الهيئة الشعب العراقي مباشرة برسالة مفتوحة بتاريخ (8/9/2005م) وصارحته بكثير من الأمور المتعلقة بهذا الموضوع، قالت فيها بوضوح: “إذا كنا من قبل قد أطلقنا على قانون إدارة الدولة المؤقت (قانون المؤامرة) فثقوا أن المسودة الحالية هي أسوأ وثيقة يشهدها عالمنا الإسلامي، ويصح فيها الوصف: أنها (دستور المؤامرة الكبرى)؛ لأنها تمهد لتقسيم البلاد، وتبديد ثرواتها، وتحويل العراق إلى بلد ضعيف تأكله الانقسامات تمامًا كما فعلوا من قبل مع لبنان الشقيق الذي ما زال يعاني من هذه المؤامرة”.
ث- المشاركة في الجهود الرامية للتعريف بالقضية العراقية وكشف ما خفي من مشاريع الاحتلال في العراق، وقطع الطريق على المحاولات الساعية لتغييب الصوت العراقي المناهض للاحتلال والمقاوم له. ومن هنا كانت مشاركة الهيئة في كثير من المؤتمرات الخارجية ومنها: المؤتمر القومي الإسلامي في دوراته جميعًا بعد الاحتلال، والمؤتمر القومي العربي، ومؤتمرات الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والمؤتمرات الدورية لجامعة الأزهر، والمجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في القاهرة، ومؤتمرات مؤسسة القدس، ولقاءات الحملة العالمية لمقاومة العدوان.
وأسهمت وفود وشخصيات من الهيئة في: مؤتمرات بحثية وإعلامية، وندوات ولقاءات، ومهرجانات أخرى كثيرة، وشاركت في جولات تعريفية في دول كثيرة شملت عدة دول عربية ومسلمة، فضلًا عن دول أسيوية ودول في أوروبا الشرقية والغربية، جرت فيها زيارة مدن، نحو: إسطنبول، ولندن، وروما، وميلانو، ومدريد، وموسكو، وبوخارست، وطوكيو، وجكارتا.
وحضرت الهيئة مؤتمر الوفاق العراقي في القاهرة سنة (2005م)، واجتماع اللجنة التحضيرية له بعد أشهر في القاهرة أيضا سنة (2006م)، ولقاء العلماء في مكة المكرمة في السنة نفسها. وعلى الرغم من القناعة التامة للهيئة والقوى المناهضة للاحتلال الأخرى المشاركة معها في هذين المؤتمرين واللقاء، بعدم جدواها من الناحية العملية لأسباب عدة، لعل من أبرزها هيمنة إرادة المحتل الأمريكي، وعدم رغبة الأطراف الحاكمة في بغداد بحل حقيقي ينهي الاحتلال في العراق؛ إلا أن المشاركة كانت تسعى أصلًا لإيصال صوت القضية العراقية إلى منتديات لم تصلها من قبل، وعرضها من على المنابر المتوفرة ما أمكن سعيًا لكسر الحصار القاتل عليها، فضلًا عن إقامة الحجة على الداعين وقطع الطريق على المتحججين.
وإذا أخذنا مؤتمر (الوفاق الوطني) في القاهرة المنعقد سنة (2005م) كمثال على الجهود التي بذلتها الهيئة في هذا السياق؛ فإن المتابع للقضية العراقية والمهتم بها سيلحظ بشكل واضح أن هذا المؤتمر كان فرصة مهمة للانتقال إلى مرحلة أخرى مهمة من مراحل العمل السياسي ضد الاحتلال ومشروعه، وهي محاولة إيصال رؤية القوى المناهضة للاحتلال والمقاومة إلى المحيط الدولي بأي وسيلة ممكنة؛ حيث حضرت الهيئة والقوى المناهضة للاحتلال في إطار المؤتمر التأسيسي بعد الاتفاق مع أمين جامعة الدول العربية عمرو موسى أثناء زيارته لبغداد؛ على أسس معينة للموافقة على المشاركة في المؤتمر وحضور أعماله، وأعلنت تلك الأسس في مؤتمر صحفي في اليوم نفسه لزيارة عمرو موسى لمقر الهيئة في جامع أم القرى بتأريخ: (8/10/2005م).
وأهم هذه الأسس هي: أن يكون توصيف هذا اللقاء على أنه لقاء بين قوى مناهضة للاحتلال والجهات المشاركة في العملية السياسية، وأن لا يُعدَّ هذا المؤتمر جزءًا من العملية السياسية بأي حال من الأحوال.
وهذا ما حصل؛ حيث كان المؤتمر فرصة مناسبة لبيان وجهة نظر القوى المناهضة للاحتلال، والتعبير عن رأي المقاومة العراقية، التي سُعيَّ إلى أن يكون لها حضور فعلي في هذا المؤتمر، أو حضور سابق له في مقر الجامعة العربية على الأقل، وحيث لم يحصل الأمر فقد قامت القوى المناهضة للاحتلال بواجبها في إيصال وجهة نظر المقاومة نيابة عنها.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

شاهد ايضًا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى