أخبار الرافدين
لهيب عبد الخالق

العراق.. السقوط الحر

مع انهيار المشهد السياسي في العراق، يبحث اللاعبون عن أرض تحمل أعباء المرحلة المثقلة بتراكمات تسعة عشر عاما من السقوط الحر لبلد كان مركزا للإشعاع الحضاري. ومع فشل محادثات تشكيل حكومة جديدة استمرت شهورا، ودفعت نواب الكتلة الصدرية للاستقالة وصعود بدلاء يكرسون هيمنة إيران على القرار السياسي في العراق، يتجه البلد المنهك من كل أنواع الحروب والاقتصاد المنهار وتراجع حقوق الإنسان إلى المرحلة الصفرية، وإلى هاوية سحيقة لا قرار لها.
ولا يبدو في الأفق حل سحري، فالشارع يغلي لكنه عاجز عن فرض الحل، والقوى التي تنضم إلى الجهود الوطنية تتردد في إعلان ساعة الصفر لتحرك يقلب المعادلة أو الوضع أو يفرض في أقل الاحتمالات التغيير المطلوب لاستعادة البلد من أيدي المتسلطين على رقاب شعبه. بل إن الشارع والقوى المتراكمة كتراكم السحب المنذرة بهولٍ مقبل، لا يمتلكون أجوبة لكل الأسئلة، أو برامج سياسية أو بوصلة يمكن أن ترسم طريق الخلاص.
وفي الواقع لم يعول الكثيرون على إمكانية التيار الصدري في حل المشكلات المعقدة، وفرض حكومة لا تحكمها الطائفية أو الإثنية، أو المصالح الداخلية والخارجية، ولم يتمكن الصدريون ولا الذين يجلسون على دكة “البرلمان” المحسوب على العراق، من حكم العراق وسط أهوائهم وانتماءاتهم البعيدة تماما عن مصالح الشعب والبلد. وفي الواقع فإن مشهد السقوط الحر لا يلبث يتكرر منذ الغزو الأمريكي -البريطاني للعراق واحتلاله في عام 2003.
لقد دمر العراق دورات الحرب وأزمة اللاجئين والمهجرين والنازحين الهائلة، والطائفية المعوقة، والانتشار العنيف للتنظيمات الإرهابية والمليشيات، بينما تتمركز القوات الأمريكية والتحالف الدولي في بؤر “قواعد” لا يعرف الكثيرون كيف تدير التدهور الأمني وعدم الاستقرار، أو كيف تبقي العراق في وضع الـ “لا توازن”.
وتمثل المشاكل الأمنية أكثر المشاكل إلحاحًا في العراق اليوم، والتي تسببت في ركود الاقتصاد بأكمله. فقد تزايد الإرهاب، واختارت التنظيمات الإرهابية أراضي العراق ساحة للتعامل مع الولايات المتحدة، وتلاشت الحدود بين التمرد والإرهاب والجريمة، وفي بعض الحالات شكل الإرهابيون والمجرمون والميليشيات وبعض “القوى الأمنية” تحالفا، لخدمة مصالح النظام الحاكم. بل أصبح العراق مرتعا للاستخبارات الدولية وتصفية الحسابات الإقليمية والدولية.
وتؤكد الاحتجاجات والتظاهرات التي خرجت في كل المحافظات، أن الواقع المعاش أصبح مستحيلا. وينبع استياء العراقيين من واقع المجتمع، فهناك:
• انعدام الأمن ونقص الحماية.
• نقص الكهرباء والمياه والخدمات البلدية والخدمات الصحية.
• الفساد في كل شريحة من شرائح المجتمع من الإدارة العليا إلى الرتب الدنيا من المسؤولين.
• تجاوز معدل البطالة 70 بالمائة.
• انحدار التعليم وانعدامه لشريحة واسعة من الشعب.
• التضخم الاقتصادي مع ضآلة الرواتب، بل إن الرواتب باتت تتأخر أشهرا ما يجعل الفرد العراقي عاجزا أمام حاجة عائلته للعيش الكريم.
• تغول الميليشيات والتشكيلات المسلحة.
• التلوث البيئي الذي أفقد البلد قدرته على توفير سلة غذاء، ولم تعمل أية حكومة منذ 2003 على كري الأنهار أو بزل التربة، وبلغ التثخن في مياه النهرين المنحسرين رقما غير مسبوق.
كثيرة هي الأسباب التي دفعت الشارع العراقي للخروج إلى الساحات بصدور مفتوحة، تلقت رصاصات الغدر من قوى يفترض بها أن تكون حامية للشعب لا قاتلته. لكن الواقع الحالي يحتاج حلا شموليا يغير الواقع الذي فرضه الاحتلال الأمريكي، ووفقا لتصوري فلابد من تغيير مرحلة ما بعد 2003 وما نتج عنها وما ترتب عليها وآثارها وبأثر رجعي. ويعني ذلك:
• السعي لإلغاء القرارات الدولية 1483 الصادر في 22 أيار (مايو) 2003، والذي أجاز للقوات الأمريكية والبريطانية السيطرة على اقتصاد العراق ومستقبله السياسي وحدد دور الأمم المتحدة بتقييده في القطاع الإنساني والاستشارات السياسية. والقرار 1500 الصادر في 14 آب (أغسطس) 2003، الذي وافق على قيام مجلس الحكم الانتقالي في العراق، وإنشاء بعثة مساعدة للأمم المتحدة لفترة 12 شهرا مبدئيا، وهو الذي أنتج النظام الحالي.
• إلغاء دستور الاحتلال الصادر في 2005، والذي رسم شكلا معوجا للنظام الحاكم، ورشق القنابل في كل بند فيه ما أفرز حكومات غير وطنية، وغير قادرة وليست ذات خبرة في الحكم، رسخت الطائفية والعرقية، وأشعلت حروبا أهلية، مازالت نيرانها تأكل اليابس والأخضر. والعودة للدستور السابق للاحتلال، مع إلغاء أو تعليق مواده المتعلقة بحكم الحزب الواحد وتعديله، ووضع قانون للانتخابات يقترح انتخاب الرئيس في نظام رئاسي دستوري، فالدستور العراقي ما قبل الاحتلال أفضل دساتير المنطقة.
• إنشاء وضع انتقالي يقود إلى مرحلة تأسيسية لنظام حكم رشيد، يضع أولويته المواطنة العراقية، والولاء لله والوطن والشعب، وينبذ الطائفية والعرقية، ويرسخ إدارة عراق واحد، والمساواة والعدل.
• وضع برامج عمل لإعادة هيكلة مؤسسات الدولة على أساس صحيح يضمن عدم تفشي الفساد، واستعادة الأموال والثروات العراقية بمساعدة المجتمع الدولي، وإنشاء آليات عمل لتنفيذ كل البرامج الوطنية.
ما يحتاجه العراق كثير، من إعادة بناء بناه التحتية، إلى المدارس والجامعات وتغيير أنظمة التربية والتعليم التي حفلت بالدس وتشويه التاريخ الحقيقي، وأسفرت عن تراجع التعليم. وكذلك القطاع الصحي الذي تحول إلى بؤرة لمافيات تجارة الأعضاء البشرية، والتجارة بالمرضى والأمراض. ولا ننسى القطاع التجاري والزراعي، وحقوق الأطفال والنساء، والسجناء والمغدورين..
العراق أمام مفترق طريقين لا ثالث لهما، فإما الاستمرار بوضع السقوط الحر، أو الذهاب إلى طريق الحرية، وقد طال اشتياق الشعب لهذه الحرية التي امتلأت الدروب إليها بالدماء الزكية.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى