أخبار الرافدين
لهيب عبد الخالق

على أبواب الجحيم

عندما نكون على ابواب الجحيم، في منافينا التي نشدنا بها الامان، فإذا بالطبيعة تسخر منا.
في غضبة طبيعية التهمت الحرائق نصف مدينة هاليفاكس عاصمة مقاطعة نوفا سكوتشيا الكندية حيث نعيش، أخلي أكثر من 18 ألف مواطن، دمرت اكثر من 200 هكتارا، ومازال وضعها خطرا، لأننا ما زلنا في حال طواريء.
حقائبنا حاضرة لإخلاء في ظرف 30 دقيقة في حال صدور الأمر التحذيري، وكأن صرة الترحال هذه لا تريد مفارقتنا.
الحرائق على أطراف الحي الذي نحن فيه، وتسببت في انتشار غاز الأمونيا من مستودعات وأنابيب تضررت بالنار.
يذكرني الوضع الطاريء بالحروب التي خضناها وكنا شهودها، والصواريخ التي كانت تسقط بعشوائية لا تفرق بين أحد وحالات القلق والخوف التي أصابتنا حينها، وكيف كنا نعمل تحت القصف، نمشي مسافات لنصل إلى مصادرنا ونعود للجريدة مشيا، ثم للبيت حيث نرتكن زوايانا الليلية.
منذ خمسة أيام ننام بقلق وخوف من أي إنذار بالإخلاء..
الصداع يصيب الجميع، عندما نفكر في كيف يمكن أن يفقد الانسان في لحظة، كل ما يملك ويهرب إلى الحياة بلا أي شيء..
وأتذكر النازحين على جسر بزيبز ومن الموصل، في العراق، وفي سوريا واليمن، والسودان وغيرها، وحيث تشتعل الحروب، والصور التي تعلق بذهني ولا تفارقه، عندما كنت في مرجل الاخبار بالقسم السياسي.
أذكر أنني كتبت حينها “بلا بوصلة” في مجموعتي الأخيرة مسافة جرح:
راحلون،
بلا ذكرياتٍ،
ولا ماءَ
لا خبزَ
لا سِترَ
غير الذي يتفجرُ فينا،
ونركضُ بين القنابل والنارِ
بين الثرى والمدى،
بين عصف الصواريخ
أو صرخات الردى..
راحلونَ،
وخلف التلول تركنا منازلنا
مشرعاتٍ لعهرِ الحروبِ،
وأحفادُنا في غياهبِ أوردةٍ يبِسَت كثرما نزَفَت،
خلفَ تلك الدروبِ تركنا المساءَ يولولُ
أينَ الذين توكأ ذاكَ الزمانُ عليهم،
وأينَ الذين إذا غامتِ الشمسُ
كانوا النهار الذي لا يغيبُ،
وأينَ الحبيبُ،
وليلٌ يجمّعنا حول فاكهة البردِ،
والسابلونَ،
وصوت المآذنِ،
والأنبياءُ الذين تُدثّرُهم هذه الأرضُ،
كان المساءُ يمزّقُ أعراضنا،
ثم يشعلُ أجسادنا حطباً…
راحلونَ،
ولا زادَ،
لا كبرياءَ،
ولا أيّ شيءٍ،
سوى أن يستبيحَ الغزاة
بقايا نخبّئها تحتَ بالي الخرقْ
كلّ ما نرتجيهِ ونحن نسابقُ كل الرياحِ
الى الغدِ،
ألا نكونَ رقيقاً
على رقعةٍ من ورقْ
راحلونَ،
ولا غدَ نرجو
ولا أمسِ سوف يعودُ،
ولا في الطريق حوافٍ نحُطّ عليها،
وأبصارنا شاخصات
عسى أن تشكّل أحلامنا بوصلةْ
مُترعون بكل الرزايا
تصفقنا العادياتُ،
وتنثرنا في الفضاءِ
رماداً،
وأفئدةً ذاهلةْ…
كانت قصيدة حالة من الحزن، لم اتدخل فيها كثيرا حينها وتركتها بمشاعرها.
اشعر برغبة في الكتابة والنار من حولي، تحيط حينا من الجنوب والشمال الغربي للمنطقة التي نسكن فيها. الجو مليء بابخرة الحرائق التي تشبه حرائق الحروب، نفس الرائحة، ونفس الهجير والجحيم، أضف اليه رائحة غاز الأمونيوم التي اختلطت بالهواء وسحب الدخان.
رغبت بالكتابة، لكن القلق والخوف اللذين عاوداني، جعلتني ارتجف لأول مرة منذ غادرت العراق في 1999. لا ادري إن كنت دخلت مرحلة شيخوخة والارتجاف بسببها، أم أنه الخوف والقلق والصداع.
قبل ثلاثة أيام كنت أركض في مسارات الرياضة، هل يكبر الانسان في لحظة!
لماذا لم نكبر في أيام الحروب، كان الخوف يدفعنا للقتال والنجاة، كنا ندافع عن وطن هو كل شيء، لكننا اليوم ندافع عن حياتنا فحسب. كان الوطن هو حياتنا، الان حياتنا تعني اربعة اشخاص فقط.
اشياء مختلطة بذهني، مع دخان الحرائق والأمونيا، والخوف على امي المسنة واختي المصابة بالتصلب اللويحي المتعدد، وكالعادة أنسى نفسي وسط الكفاح من أجل الحياة. قد أكون أنا قصيدتي الأخرى التي لم تفصح عن نفسها بعد.
لتغلق أبوب الجحيم، ونعيد ترتيب الأوراق. اختلفت أولوياتنا، وانقلبت حياتنا، وتغيرت مفاهيمنا، وأصبحنا كائنات دخانية، حتى أعتى الرياح لم تبددنا.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى