أخبار الرافدين
محمد الجميلي

فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفا

مشاهد الحجيج وهم يؤدون المناسك العظيمة كل عام، متجردين من كل لباس مخيط وزينة، إلا من لباس الإحرام، ضارعين لربهم بين عرفات ومزدلفة ومنى والبيت العتيق، ملبين ومكبرين، تعلوا أصواتهم بتوحيد الله، والبراءة من الشرك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك، هذه المشاهد كلها تذكرنا بخليل الرحمن إبراهيم، الذي أمره الله ببناء بيته الحرام، وتطهيره للطائفين والقائمين والركع والسجود،
ذلك الفتى إبراهيم الذي حطم رؤوس الأصنام بفأسه، ولم يخش الطواغيت وكهنتهم حين حكموا عليه بالموت حرقًا، وكيف يخشاهم وهو الفتى الذي آتاه الله رشده، وملأ قلبه بنور الإيمان وتوحيده، فوقف الفتى إبراهيم ثابتًا راسخًا أمام طوفان الشرك والوثنية المسلحة، وهو الأعزل من كل سلاح، إلا من قلب عامر بالتوحيد، ولسان صادق اللهجة، قوي الحجة، يعلنها في وجوههم “لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين”، لقد كان إبراهيم يومها، الأمل الوحيد لنشر النور في أرجاء أرض لفّها ظلام الشرك والطغيان.
يا ترى ما الذي كان يمكن أن يحل بالعالم، لو أن إبراهيم شك للحظة، أنه غير قادر لوحده، على مجابهة النمرود وكهنته وطغيانهم، وأنه عاجز عن تغيير ذلك الواقع، الذي لا بصيص نور أو أمل في نجاح مهمته بتغييره، وما ذا سيكون لو أنه آثر السلامة، محتجًا بموازين القوى، التي ليست في صالحه، وما الذي سيحصل، لو أنه شك للحظة أن الباطل أمامه، أقوى من الحق الذي معه، وأن الله لن ينصر دينه، ولن يكبت عدوه؛ إذن لما كان هناك حج، ولما كان هناك إيمان ومؤمنون.
إن العالم كله -وليس حجاج البيت الحرام فحسب- بحاجة لتدبر سيرة النبي إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، والتأسي به، فقد كان أمة، حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين، فما أشد خزي الأبعدين الذين يعمدون لاستغلال اسمه في الترويج لدينهم الباطل الجديد، الذي سموه “الإبراهيمية”، وإبراهيم منهم براء، وهو الذي تبرأ من الباطل وطواغيته، وطهر الأرض من الشرك وبراثنه، وإن هذا العالم لا يستقيم أمره، ولا تستقيم حياة الخلق فيه، إلا بالخضوع لخالقه، واتباع شريعته، ولينظروا في ملكوت الله، وهذا الكون الفسيح، الذي غاصوا في أعماقه عبر مرقابهم الجديد ما يقرب من ثلاثة عشر مليار سنة ضوئية، هل شاهدوا هذا الخلق المتقن، والنظام الدقيق، وكله طوع أمر خالقه، لا يخرج عنه قيد أنملة، فما بال هذا الإنسان على كوكب لا يساوي ذرة في هذا الكون الفسيح، يتمرد على خالقه، ويحارب دينه وشريعته؟! ما لكم كيف تحكمون؟
إن ذبح الأضحية يوم النحر، ناهيك عن أداء المناسك في الحج، لا يكفي لوحده في الوصول إلى حقيقة الاقتداء بالنبي إبراهيم الخليل، إن لم يتم التأسي به في أساس العبادة والتوحيد، ألا وهو الولاء والبراء، الولاء لأهل الإيمان والتوحيد والحق، والبراءة من الشرك والباطل وأهلهما، فهذا هو التأسي الحقيقي، كما أمر الحق “قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه، إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله، كفرنا بكم، وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدًا حتى تؤمنوا بالله وحده”، فدين الله كلٌ لا يتجزأ، ولا ينفصل بعضه عن بعض، فعل ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم حين عرض عليه المشركون دمج دينهم الباطل بدين الإسلام الحق، فقالوا نعبد إلهك عامًا وتعبد إلهنا عامًا، كما يسمونها اليوم “وحدة الأديان”، تحت عباءة التسامح، ونبذ التعصب، وإنما هو نبذ للدين بالكلية، فكان الجواب “قل يا أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين”، تأكيد مرة بعد أخرى، على أن دين الحق، وباطلهم لا يجتمعان أبدا، “قل أفغير الله تأمرونّي أعبد أيها الجاهلون”، فهذا هو دين إبراهيم ودين الأنبياء كلهم، محجة بيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك.
لن نجد مثالًا صارخًا على هذه الازدواجية في المثل والاعتقادات والمواقف، مثل ما يحصل في العراق اليوم، على يد من يدعون أنهم على نهج الحسين-والحسين بريء منهم- بينما يرتكبون شر الموبقات، ويدّعون الوطنية، وهم عملاء الاحتلال، وأدلاء الغزاة، احتفلوا بيوم احتلال بغداد في التاسع من نيسان عام 2003، وجعلوه عيدًا وطنيًا لهم، ثم يكذبون على الله وعلى الناس وعلى التأريخ، ويزعمون مقاومة الاحتلال، وهم الذين نصبهم الغزاة حكامًا على العراق، وحاربوا معه أبطال المقاومة، ولاحقوهم، وزجوا من بقي حيًا منهم في السجون بتهمة الإرهاب، والمضحك المبكي أنهم يحتفلون في كل عام بذكرى ثورة العشرين ضد الاحتلال البريطاني للعراق، ويلقون القصائد في المفاخرة بأبطال الثورة ويزعمون أنهم أحفاد أولئك الذين شهروا سيوفهم بوجه الاحتلال، وهم الذين أهدوا رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي وقائد غزو العراق، سيف علي -كما سموه- شكرًا له على غزو العراق وتدميره، فأين الثرى من الثريا، وأين هم من سيرة أولئك، وأين عمالتهم من وطنية الثوار، وأين قاعهم من قمم المجاهدين، ستظل تسأل؛ من أين استمد هؤلاء دينهم، وهم في كل عام يحجون، ويطوفون بالبيت الحرام، ويرجمون الجمرات، وهم أولى بالرجم من إبليس.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى