أخبار الرافدين
كرم نعمة

التوافق الزائف بين الكاظمي وصالح

لم أتراجع عن استخدامي لتعبير “الحكومة الافتراضية” القائمة في المنطقة الخضراء منذ أول حكومة شكلها مجلس الحكم المنحل، ليس لأنني متطرف في الصياغة اللغوية، بقدر فشلي في إيجاد ما يفند معنى ذلك التعبير،
لأننا في حقيقة الأمر حيال لا دولة قائمة في جغرافية العراق كدولة.
افتراضية الحكومة في المنطقة الخضراء تتأتى من كونها هناك لتحمي نفسها خلف الأسوار، ومن ثم إصدار البيانات والأحكام، من دون أن تكون لها سلطة واقعية على تنفيذها. فمهما زعم مصطفى الكاظمي، وبنيات طيبة وجود دولة، ففشله في الاقتراب ممن هدده من الميليشيات بقطع أذنه وهو قائد عام للقوات المسلحة كما تفترض التسميات. يفند هذه المزاعم.
دعك من اعترافاته في المجالس الخاصة بأن لا سلطة له على ميليشيات الحشد الشعبي، وأن لا سلطة له أيضا عندما يتواصل زعماء الكتل والأحزاب مع دول أخرى بما يمس السيادة العراقية المفترضة.
عندما تشابكت ميليشيات مقتدى الصدر مع ميليشيا الحشد الشعبي، أتضحت لنا صورة اللادولة بامتياز، فالحكومة بقيت تمارس دور “الطرطور” وفق الثقافة الفلكلورية العراقية، بل أن أحد كبار المسؤولين في الحكومة اعترف بوضوح بذلك في تصريح نقلته وكالة رويترز بقوله إن السلطات ليست في وضع يسمح لها بفرض سيطرتها.
وقال المسؤول في حكومة الكاظمي وفق نص وكالة رويترز “أن الحكومة لا حول لها ولا قوة لوقف الاشتباك لأن الجيش منقسم بين موالين لإيران وأتباع الصدر”.
مهما يكن من أمر، لا جديد في واقع اللادولة القائم في العراق منذ عام 2003، لكن التاريخ هنا جاهز لفتح مدونته المتهكمة على الانهيار المؤسساتي، وعدم وجود معايير سياسية، وقبل ذلك لا إجابة على سؤال: بيّد من مصدر القرار في دولة بأهمية العراق؟
سبق وان “تعارك” رئيس الجمهورية آنذاك جلال الطالباني مع رئيس الحكومة إبراهيم الجعفري، على من يمثل العراق في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، فكل واحد منهما قال إن له الحق في رئاسة وفد العراق! وبالطبع وفق مفاهيم اللادولة يبدو الاثنان على حق، مثلما هما بلا حق أيضا، لكن لا قانون، وقبل ذلك، لا هيبة وسيادة للدولة في أن تفصل بذلك.
وبالفعل ذهب الطالباني والجعفري كل على انفراد لتمثيل العراق في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
الطالباني استثمر علاقاته الأمريكية بزخم التأكيد أنه ممثل العراق الرسمي، بينما لم يجد الجعفري غير أن يذهب وقتها إلى زيارة متحف الأرشيف الوطني الأمريكي للظهور أمام وسائل الاعلام.
الرئيس الأمريكي حينها جورج بوش استقبل الطالباني في لقاء عابر لأحد أتباعه، بينما لم يجد الجعفري غير أن يخصص له نائب الرئيس ديك تشيني أكثر من عشرين دقيقة! وهذا ليس مهما حيال حيرة إدارة الأمم المتحدة في التعامل مع ممثل العراق الرسمي.
في النهاية، قرأ الطالباني كلمة العراق في اجتماعات الأمم المتحدة، ولا نعرف ماذا حل بكلمة الجعفري!
لم ينته “العراك” في حدود مبنى الأمم المتحدة، فعندما عاد الأثنان إلى بغداد أظهر كل واحد منهما ذرائعه ومسوغاته لتمثيل العراق، فالجعفري قال أنا لم أسافر الا بمشورة المستشار القانوني لرئيس الوزراء، لكن ماذا أفعل والطالباني سبقني إلى هناك. بينما الطالباني قال الأمم المتحدة وجهت الدعوة الى رئيس جمهورية العراق حصرا.
بعد عراك الطالباني والجعفري، لم تتعلم الحكومة الافتراضية القائمة في المنطقة الخضراء شيئا من مفاهيم الدولة المؤسساتية، ولن تضع معايير لذلك، لسبب في غاية البساطة يكمن في أنها نتاج لابتذال سياسي قائم ويراد له أن يستمر.
بالأمس تجسد مفهوم اللادولة بكوميديا دبلوماسية، فندت كل الكلام المتفائل عن تفاهم رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي مع رئيس الجمهورية برهم صالح، بشأن الملفات السيادية، عندما وجه المبعوث الشخصي للرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، وزير العدل عبد الرشيد طبي، دعوتين في آن واحد! الى رئيس الجمهورية وأخرى إلى رئيس الوزراء لتمثيل العراق في القمة العربية المؤمل عقدها في الجزائر في تشرين الثاني.
ليس مهما أن نعرف، من سيمثل العراق في تلك القمة، لكن تلك السابقة الدبلوماسية في توجيه الدولة الراعية دعوتين لدولة واحدة لرئاسة وفد بلادها، عصية على التفسير الدبلوماسي والتاريخي، بغير العودة الى مفهوم اللادولة القائم في العراق الذي لم اتراجع لغاية اليوم عن استخدامه في كل ما كتبت.
هذا يعني ببساطة أن للكاظمي عراقه وهو مختلف بالضرورة عن عراق برهم صالح. وليس وحدهما فلكل من يتواجد بمسؤولية في المنطقة الخضراء عراقه الخاص. مقتدى الصدر له عراقه. نوري المالكي كذلك، عراق عمار الحكيم هو ليس عراق محمد الحلبوسي ولا يلتقيان إلا بتسميات شكلية سطحية، أما عراق مرجعية علي السيستاني فهو فوق العراق كدولة لأنه يدار بقوة اقتصادية واعتبارية ضخمة، فمرجعية النجف بأموالها ومشاريعها التجارية وميليشياتها، دولة بموازنة تفوق موازنة دول مجاورة للعراق. ولا يحق لأي جهة رقابية وقانونية الاقتراب منها.
اللادولة قائمة ومستمرة في العراق، وآخر الزعماء الافتراضيين فيها الكاظمي وصالح مع انهما ظهرا لنا من قبل على توافق اتضح زائفا.
المعضلة في النهاية في بغداد وليست في الجزائر، فلا أحد يحير في وضع احتمالات كيفت تصرفت الجزائر في توجيه وتفسير الدعوتين، لأن وفق القواعد الدبلوماسية ليس هناك ما يقلقها وسترحب بأي من الواصلين إليها أولا إن كان الكاظمي أو صالح، لكن كان عليها وفق التعليق المتهكم للزميل الإعلامي محمد الجميلي أن تتخلص من هذا المأزق مع اللادولة في العراق وتسلم الدعوات للسفير الإيراني كي يوزعها بمشيئته على عماله في العراق!
يعزز هذا التهكم علاقة الجزائر الحميمة مع إيران.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى