أخبار الرافدين
د. سعاد ناجي العزاوي

المياه ثروة استراتيجية وقوة سياسية

مع مرور الوقت وزيادة نسبة السكان في العالم حد وصفها بالانفجار السكاني بالإضافة الى الجفاف، أصبحت المياه العذبة من الثروات الحيوية المحدودة والمهمة لتلبية متطلبات السكان الغذائية والمائية والتنمية الاقتصادية والأمن القومي للدول.
وقد شهدت العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية استثمارات ضخمة في السدود الكبيرة وخزانات المياه، وترتب على ذلك ارتفاع عدد السدود الكبيرة على مستوى العالم من 5000 سد في عام 1950 إلى حوالي 50000 في عام 2017، وتضاعفت المساحات الزراعية المروية من 140 مليون هكتار إلى 280 مليون هكتار. وقد كان لسياسات تطوير أنظمة وتقنيات الري في القطاع العام والطاقة الكهرومائية، والسدود المرتبطة بهما، دورا كبيرا في ترتيبات الجغرافيا السياسية للحرب الباردة والسياسات الوطنية للدول، اذ أصبح موضوع المياه الصالحة للاستخدام البشري طوال فترة الحرب الباردة أكثر ارتباطًا في بناء الأنظمة السياسية وهدمها عبر دعم وتقويض الشرعية السياسية للنظم، و، أو تمكين الفئات الاجتماعية وإضعافها، طبقا لمصالح الأطراف المهيمنة.
ولم تعد قضية المياه كمورد وثروة استراتيجية مرتبطة بالقضايا البيئية وقضايا الأمن الغذائي فحسب، بل أصبحت تلعب دورًا مهمًا في ترتيبات الأمن الإقليمي أيضًا، اذ بدأت الدول تنظر إلى المياه على أنها وسيلة للضغط السياسي الى جانب دورها كمصدر للسلطة أيضا.
يوجد على سطح الكرة الأرضية أكثر من 263 مجرى مائي دولي يولد ما نسبته 60 بالمائة من تدفق المياه العذبة العالمية ويغطي ما يقرب من نصف سطح الأرض. هذه الأنهار الدولية تعبر أراضي 145 دولة وتشكل موطنًا لنحو 40 بالمائة من سكان العالم.
وتطرح الأنهار المشتركة بين دولتين أو أكثر من الدول المتشاطئة على حوض النهر بذاته مستويات مختلفة من الخلافات حول حصص مياه الأنهار. ولا يمكن تفسير النزاعات حول مياه الأنهار المشتركة دون فهم علاقات القوة وأهمية تحديد مواقع الدول المتنافسة أو المتصارعة في أعلى مجرى النهر وأسفله، وفي المناطق القاحلة وشبه القاحلة مثل الشرق الأوسط، تمثل المياه مصدرًا لسلطة الدولة، وتؤثر ندرة المياه بشكل كبير على التنمية والأمن القومي لهذه الدول.
يواجه العراق اليوم ندرة في المياه وزيادة في رقعة التصحر بعد الانخفاض المستمر في الوارد المائي السنوي لمياه نهري دجلة والفرات بسبب انشاء وتشغيل عشرات السدود على منابع النهرين في تركيا وإيران. وسيتفاقم نقص المياه مستقبلا بسبب تفاقم اثار التغير المناخي العالمي حيث أفاد برنامج الأمم المتحدة للبيئة (UNEP)لعام 2018 أن العراق يفقد حاليا حوالي 25000 هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة سنويًا. لقد أدى إنشاء وتشغيل أكثر من 100 سد كبير وخزان ومحطة طاقة كهرومائية في أقل من أربعة عقود على منابع نهري دجلة والفرات في تركيا وإيران ومناطق كردستان العراق إلى إعاقة تدفق كميات كبيرة من مياه النهرين وتسببت في تدهور شديد للأراضي والبيئة في العراق.
لقد بدأت تركيا منذ سبعينات القرن الماضي بإنشاء مشروعًا طموحًا لمنطقة جنوب شرق الأناضول يتم اختصاره (GAP) أو “Guneydogu Anadolu Projesi” باللغة التركية. يتضمن هذا المشروع بناء 90 سدًا، و60 محطة طاقة كهرومائية، وأنفاق تحويل المياه لمساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، والبنية التحتية للري على منابع دجلة والفرات. وقد بلغت سعة تخزين السدود العملاقة للمشروع بحدود 144 مليار متر مكعب وسيؤدي التنفيذ والتشغيل الكامل لمرافق مشروع جنوب شرق الاناضول على الأراضي التركية إلى استنزاف ما يقرب من 70-80 بالمائة من مياه نهري دجلة والفرات المتدفقة تاريخيا إلى الأراضي العراقية ولسوريا.
ولفهم طبيعة مشروع جنوب شرق الاناضول أو GAP) ) لابد من التأكيد على انه خلال فترة الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي بقيادة الولايات المتحدة الامريكية والشيوعي الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفياتي آنذاك، أصبح توظيف المشاريع المائية في التنمية الاقتصادية أكثر ارتباطًا في بناء الأنظمة السياسية وهدمها في ارجاء مختلفة من العالم، وفي دعم وتقويض الشرعية السياسية، وتمكين الفئات الاجتماعية أو إضعافها.
هذه الدراسة تقدم لمحة عامة عن الكيفية التي لعبت فيها سياسات الحرب الباردة بعد الحرب العالمية الثانية دورا مهما في خلق حالات التوتر والتضارب في المصالح المحتملة بين الدول المشاركة في حوضي نهري دجلة والفرات. وبصفتها عضوًا نشطًا في الناتو، تلقت تركيا دعمًا سياسيًا وماليًا وتقنيًا لتسريع بناء سدود GAP الضخمة لتخطي مرحلة التفاوض وتوقيع بروتوكولات تقاسم مياه النهرين مع الدول المشاركة في حوضي ومجاري النهرين والمصب “العراق وسوريا” أو إجراء دراسات تقييم شاملة للآثار البيئية Environmental Impacts Assessments المترتبة على انشاء هذه السدود عليهما، كسياق معتمد من قبل الهيئات الدولية والقوانين التي تنظم استخدامات المياه.
لقد تم في هذه الدراسة تحليل العلاقة بين بيانات معدلات الوارد السنوي (Mean Annual Flow Rate MAFR) لنهري دجلة والفرات من سجلات وزارة الموارد المائية في العراق (MoWRI) ، بالارتباط مع تواريخ ملء السدود وتشغيلها في تركيا من بحوث منظمة الغذاء والزراعة التابعة للأمم المتحدة (FAO, 2009)، مع الإشارة لتأثيرات بعض السدود الإيرانية المذكورة لتحديد مستوى العلاقة بين ملأ وتشغيل هذه المشاريع وكميات التناقص في الوارد المائي السنوي للنهرين في الأراضي العراقية والتأثيرات الحقيقية لهذا التناقص على تسارع انحسار الرطوبة والمياه الجوفية من التربة ورسوبيات مساحة كبيرة من السهول الفيضانية لنهري دجلة والفرات في العراق وتحول نسبة كبيرة من الأراضي الزراعية الخصبة الى قاحلة صحراوية وكذلك جفاف مساحات واسعة من الأهوار جنوب العراق بدأ من فترة السبعينيات حتى هذا اليوم، مع ملاحظة ان التنفيذ والتشغيل الجزئي لمشروع جنوب شرق الاناضول، جعل العراق يعاني حاليا من ندرة كبيرة في المياه، وزيادة مساحات التصحر وفي حال تم التشغيل الكلي للمشروع مترافقا مع انشاء وتشغيل اكثر من 40 سدا على روافد دجلة وشط العرب في ايران وانشاء عشرات السدود في مناطق كردستان العراق، مع تأثيرات التغييرات المناخية العالمية وخاصة على الأراضي الصحراوية وشبه الصحراوية، من المتوقع أن يجف كل من نهري دجلة والفرات في العراق بحلول عام 2040.
—————————————
جزء من بحث مطول بعنوان ” تأثيرات سدود منابع النهرين على تصحر الأراضي في العراق” تنشر الرافدين أجزاء منه على حلقات.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى