أخبار الرافدين
كرم نعمة

طريق العراقيين إلى انتخابات جوفاء

الشغف الصحفي وحده من دفعني آنذاك لأكون بين المقترعين العراقيين في ضاحية ويمبلي بلندن عام 2005 في أول انتخابات برلمانية بعد الاحتلال. لم تكن لدي أي هواجس ديمقراطية مطلقا،
ومن حس حظي أنه في اليوم نفسه كان عليّ أن أدلى بصوتي في انتخابات نقابة الصحافيين البريطانيين (NUJ)، وهي طريقة انتخابية مختلفة كليا عن انتخابات العراق آنذاك. أرسلت لي عبر البريد أوراق الاقتراع مع نبذة عن كل مرشح لمجلس النقابة لاختار ثلاثة منهم.
بقيت خارج مبني اختير لتصويت العراقيين في لندن، كانت اللغة الكردية سائدة أكثر من العربية في أجواء ممرات التصويت وبين العاملين، بينما تجمع مشجعون عراقيون يهتفون لأياد علاوي وطارق الهاشمي، بالمقابل كانت هناك هتافات طائفية من مجموعة أقل تقابلهم ترفع صورا لعلي السيستاني. أستعنت برباطة جأشي الصحافية وهمشت عراقيتي، فأنا هنا تحت وطأة حاجة الصحفي في داخلي، وليس بدافع التصويت، كما أنني بالأساس لا أملك أي وثيقة عراقية نافذة تساعدني على التصويت!
لم أستطع استخلاص قيمة خبرية من كل ما شاهدته آنذاك لكتابة مادة صحفية خارج السائد، فكانت عملية التصويت عشوائية وبإمكان أي شخص يزعم بعراقيته يقدم أي وثيقة وان كانت منتهية الصلاحية للمشاركة في الاقتراع، باستثناء أنه يغمس أصبعه بحبر التصويت. بالطبع من السهولة بمكان أن يستخدم شخص آخر نفس الوثيقة ويعود للتصويت مرة أخرى!
ويمكن أن تنطبق صورة عشوائية مركز لندن للتصويت في أولى الانتخابات البرلمانية العراقية بعد الاحتلال، على بقية مراكز مدن العراق أو خارجه. فنتائج الانتخابات كانت نتيجة مثالية لابتذال فكرة الانتخاب في بلد يرزح تحت الاحتلال، وكل الذين سيتم انتخابهم لم ولن يكونوا مصدر قرار في بلد مختطف. فعن أي غرور ديمقراطي أجوف يمكن أن نحتفل، في وقت كان شعار “الحرب تجلب الحرية” في أوج بريقه الزائف بخطابات بوش ورامسفيلد.
انتهت امسيتي الفرجوية على ابتذال الانتخابات العراقية آنذاك، بالتوجه إلى مبنى نقابة الصحفيين البريطانيين للإدلاء بصوتي وكتبت حينها مقالي تأسيسا على هذه الفكرة في الصحيفة التي كنت أعمل فيها آنذاك.
مهما يكن من أمر، فعندما تكون الانتخابات فكرة ساقطة سياسيا تكون النتائج وفق الصحفي الأمريكي البارع روبرت وورث أن تصل الاوليغارشية ولصوص الدولة إلى حكم العراق، وهذا ما يحصل منذ عام 2003، ويراد له ان يستمر في عجلة تدور لترمي وجوها مختلفة من دون أي تغيير وطني يضع عراقيته مثالا وفوق أي تقسيم طائفي أو قومي.
أي نتائج وطنية أنتجت لنا كل الانتخابات على مر الدورات السابقة، كي يراد للعراقيين ان يثقوا بأن الانتخابات يمكن أن تكون طريقا مثاليا لاستعادة بلدهم المخطوف من الأحزاب والميليشيات الطائفية؟
في حقيقة الأمر، لاشي إلا الاستمرار في لعبة الباب الدوار من دون أن نغادر نفس المكان الذي اختاره الاحتلال الأمريكي للعراقيين، والحيلولة دون دفع العراقيين باتجاه الوصول الى المعادلة الصفرية بعد فقدت الطبقة الحاكمة صلاحيتها السياسية.
لم تكن فكرة الانتخابات مبنية على جوهر ديمقراطي مخلص يضع المصلحة الوطنية فوق أي اعتبار، لنتذكر مثلا كذبة “البيت الشيعي” الواهن الذي ابتكرها سيء الذكر أحمد الجلبي، وأي خدمات قدمها للمصوتين له، غير ثقافة الايغال بطائفيتهم؟ مقابل ذلك تأمل ماذا حل بالطبقة السنية التي قدمت نفسها كمعادل طائفي آنذاك؟
خواء البيتين السياسيين الشيعي والسني لا ينتج غير وجوه بنفس “الخواء الديمقراطي” السائد في العراق. لذلك من العبث الوطني ترقب انتخابات جديدة على أمل أن تكون فرصة لإزاحة الطبقة الفاسدة، فكل ما يمهد له الآن صورة مكررة عن كل ما جرى على مدار تسعة عشر عاما. فلا يوجد مفهوم دولة يمكن التعويل عليه في انتخابات جديدة، فالاوليغارشية الطائفية جعلت من العراق خارج مفاهيم الدولة الحديثة.
لنأخذ مثال عمار الحكيم، بعد أن فشل في الاستحواذ على الحصة الأكبر في المجلس الإسلامي، أراد اختراع نفسه من جديد، فبدا أكثر طائفية مما تربى عليه في الزوايا المظلمة بقم وطهران وهو يعلن عن تيار الحكمة. الفشل في المجلس قاده إلى الفشل المضاعف في الحكمة! ومع كل هذا الكم من الفشل فأن صراخه السياسي والطائفي مستمر كي لا يغيب عن واجهة المشهد من أجل الحصول على حصة من مركبة العراق المختطفة.
سيفكر الحكيم بعرض نسخ انتخابية “محدثة” منه بوصفها نوعا من الحل! لكنها في كل الأحوال لن تكون إلا نماذج طائفيته طبق الأصل سواء اعتمرت العمامة أو قدمت نفسها بهيئة الأفندي.
نموذج عمار الحكيم السياسي، مثال يمكن تطبيقه على خميس الخنجر ومحمد الحلبوسي ومقتدى الصدر ومصطفى الكاظمي وقيس الخزعلي وهادي العامري وبرهم صالح وحيدر العبادي… دعك من نوري المالكي فهو ورقة سياسية محروقة صنفها العراقيون بـ “أكبر تفاهة سياسية في تاريخ البلاد”.
في كل الأحوال، الانتخابات كنتاج لعملية سياسية هشة أدارتها ماكنة الفساد منذ عشرين عاما، ليست حلا للعراق المختطف، ولن تجعل أي عراقي يثق بالمستقبل.
ومع صعوبة استقراء المستقبل في بلد مكبل بعقدين من الفشل السياسي والبقاء خارج التاريخ، فأن الخطوة الأولى للامساك بالمعادلة الصفرية لتهديم معبد العملية السياسية على رؤوس مشيديها، وفق شعار ثوار تشرين “نريد وطنا” يعيد الأمل بالمستقبل بالرغم من فداحة الثمن الذي سيدفعه العراقيون لاستعادة وطنهم، وقبل ذلك للإحساس بعراقيتهم التي أصابها الوهن والارتخاء، لكنها لن تموت، فعمر العراق عصي على الموت السياسي.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى