أخبار الرافدين
كرم نعمة

شرعيتهم غبار في المنطقة الخضراء

استذكر برهم صالح جملة مثيرة من كلام الرئيس العراقي الراحل أحمد حسن البكر، سمعها من أحد القادة الأكراد الذين كانوا قريبين من البكر أبان تأسيس الجبهة الوطنية التقدمية في بداية السبعينات من القرن الماضي.
كان برهم يتحدث بأريحية خارج النفاق السياسي الذي تميز به منذ أول منصب تسلمه في الحكومة التي تشكلت بعد احتلال العراق. أمام ضيوف استدعاهم لمقر سكنه الفخم الذي استأجرته له السفارة العراقية في لندن من أموال الدولة، مع أنه يقوم بزيارة خاصة، لتفقد أصدقاء الأمس.
قال برهم صالح، الذي يسهل عليه أن يكون متواضعا بعد أن أصبح مشهورًا، أعني أن يتظاهر بالتواضع المزيف أمام ضيوفه القليلين وجميعهم من العراقيين وبينهم كاتب وصحفي سابق نقل لي تلك القصة، أن البكر غضب بشدة بعد أن وصلت إلى مسامعه لامبالاة حكومية في تنفيذ قرار اتخذه، وعبر عن غضبه بشتم منصب الرئيس بكلمة نابية بقوله “أبـ…. على منصب رئيس الجمهورية إذا لم تحترم قراراته”!
بدت القصة مثيرة وبرهم يتهكم على منصبه أمام أصدقائه! لكنه قال إنه لا يملك حتى استخدام كلمة البكر النابية في وصف قراراته بوصفه رئيسا للعراق، لأنه بالأساس بلا سلطة قرار! فيشتم من؟
لم يكن برهم المعروف بنفاقه السياسي يتحدث هكذا إلا لأنه أمام أناس يعرفهم وتربطه بهم علاقة صداقة مع أن بعضهم يختلف معه في طريقة التفكير خصوصا الكاتب والصحفي مصدر هذه القصة.
قال برهم الذي لا يبدو منفصلا عن الواقع الذي فيه، مبررا دفاعه عن هزالة منصب رئيس العراق بعد عام 2003، “لست وحدي بذلك، فمقتدى الصدر وهادي العامري وقيس الخزعلي… يفتقدون السلطة على عناصرهم من الميليشيات”.
تَدَخل هنا أحد الحاضرين مذكرا بجملة نوري المالكي التي كشفتها التسريبات الصوتية بقوله لمصطفى الكاظمي “لا اعترف بجيشك وقواتك الأمنية فلدي من يحميني من عناصري”!
في كل ذلك، لا توجد أزمة شرعية بكل ما يجري في أروقة الحكومة الافتراضية القائمة في المنطقة الخضراء منذ عام 2003، لأنها بالأساس بلا شرعية أمام سلطتها، منذ أن مد دونالد رامسفيلد ساقه أمام وجه إياد علاوي بطريقة تفتقر إلى التهذيب الإنساني وليس السياسي، وحتى استدعاء جورج بوش، نوري المالكي إلى مبنى السفارة الأمريكية في بغداد، ليكتشف رئيس الوزراء العراقي المفترض! أن الرئيس الأمريكي في بغداد من دون أن يعلم، وقبلها وقوف بوش نفسه أمام أعضاء مجلس الحكم يقدمهم له أحمد الجلبي وهو يخاطب كل واحد منهم بمزاح مهين… لم تنته تلك المشاهد، بل تتكرر إلى درجة أن أحد عناصر الميليشيات هدد مصطفى الكاظمي بقطع اذنه، ولم تسعفه شرعيته المزعومة بمحاسبة هذا العنصر الميليشياوي المارق!
لذلك عندما يستمع ويشاهد قادة الحكومة الافتراضية في المنطقة الخضراء التحليلات السياسية السطحية السائدة وهي تقترح حلولا وتجمع مؤشرات بشأن ما ينتظر العراق تأسيسا على فقرات الدستور وسلطة المحكمة الاتحادية وحق الكتلة الفلانية والقانون الانتخابي… فإن قادة الحكومة يشعرون أمام هذا الكلام، للمرة الوحيدة بشرعيتهم المفقودة بالأساس أمام أنفسهم!
هذا يعني أن بعض العراقيين يعولون ويبنون قراءاتهم على ما انتجته العملية السياسية من هزال، وهو ما بقي لهؤلاء الفاسدين من لصوص الدولة، من شرعية مفترضة.
بينما في واقع الامر، كل من يرى أن المنطقة الخضراء قادرة على إنتاج حلول للمأزق الوجودي المستمر في العراق، فإنه يمنح شرعية لمن لا شرعية لهم حتى أمام قناعاتهم.
لذلك يبدو برهم صالح محقا للمرة الأولى في حياته السياسية إزاء شعوره باللاجدوى من “شتم” منصبه والتهكم عليه كما توعد البكر نفسه آنذاك، لأن برهم في حقيقة الأمر بلا منصب أمام نفسه، فكيف يحصل عليه من العراقيين. ذلك ينطبق على الكاظمي الذي مارس صمتا مطبقا حيال التهديد بقطع أذنه. فلماذا يعول بعض العراقيين على ما يجرى في العملية السياسية ويجهدون أنفسهم لاستخلاص حلول مقترحة من داخلها. الا يعني ذلك منح الغربان التي ترتدي أربطة العنق وتتجول في المنطقة الخضراء شرعية لم تحصل عليها بالأساس أمام نفسها!
بينما الموقف الوطني يدفع باتجاه الوصول الى المعادلة الصفرية بوصفها الحل الناجع لاستعادة البلاد المخطوفة، ذلك ما رفعه ثوار تشرين في جملة “نريد وطنا” على الرغم من فداحة الثمن الذي صار على العراقيين جميعا دفعه بعد انهيار بلدهم منذ عام 2003.
أو بتعبير الزميل ريناد منصور الباحث المقيم في معهد “تشاتهام هاوس” البريطاني، الذي وصف أولئك الباحثين عن شرعيتهم في المنطقة الخضراء بأنهم يمارسون “جشعا مميتا” من خلال الفساد الذي يقتل “بهدوء” من العراقيين أكثر مما فعلته اشتباكات واضطرابات ما بعد الانتخابات الاخيرة.
فعندما يلتقي ما يسمى بالإنجليزية (Thug) التي تقابل بالمحلية العراقية الشقاوات والسفاحين والمستهترين، فانهم لا يهدفون وفق الكاتب أندرياس كلوث مؤلف كتاب “أنا وهانيبال” للتقارب، أو التواصل أو التعلم أو الفهم أو الإنصات. أنهم يلتقون من أجل المزيد من الهيمنة.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى