أخبار الرافدين
علي شندب

جزائر لمّ الشمل او الذوبان بين الأنياب الخارجية

توصيف “لمّ الشمل” الذي أطلقته الجزائر على القمة العربية التي تستضيفها بعد حجب كورونا لمؤتمر القمة ثلاث سنوات، توصيف أقرب للتمنيات الجزائرية العميقة والصادقة. ليس لأنّ جزائر المليون ونصف مليون شهيد ارتقوا في مواجهة الاستعمار والاحتلال الفرنسي جادة في سعيها وتوجهاتها لردم الفجوة بين الحكام العرب رغم تغيّب بعضهم كعادته عن القمة. بل لأنّ مؤسّسة القمة العربية وأداتها الجامعة العربية باتوا قاصرين ومسلمّين بعجزهم عن مواكبة التحولات الإقليمية والدولية العميقة التي تعصف بالدول العربية من مشرقها الى مغربها.
رغم هذا، فاذا كان المقصود بلمّ الشمل، الجمع بين الدول والحكومات العربية المتنافرة، يكون شعار القمة متصالحاً مع مضمونه. لكن هل وضع العرب اليوم هو شمل ممزّق يحتاج لجمع كلمة ورصّ صفوف وصقل إرادات، أم أنّ المأساة أعمق من هذا بكثير.
نظرة خاطفة على الخريطة العربية توضح أن المطلوب يتجاوز بكثير لمّ الشمل الى جمع الأشلاء. لقد باتت الكثير من البلاد العربية أشلاء ممزقة، تحتاج كل دولة منها الى لمّ شملها وجمع أشلائها. فقد فعلت الأطماع والمؤامرات الدولية بالعرب الأفاعيل ولم تزل، ابتداء من احتلال العراق وغزوه عام 2003 ثم تقويضه وشطبه من معادلات القوة ليصبح رأس جسر التخادم الأمريكي الإيراني المتغوّل في العراق وعبره في البلاد العربية من اليمن الى سوريا التي أضحت عبارة عن مناطق نفوذ وعناوين لصراع بأجندات دولية واقليمية متوافقة أو متناقضة. وباتت الدولة السورية ككيان وطني مهدّدة وجودياً، ليس بفعل الاختلاف بين السوريين فحسب، إنّما وأيضاً بفعل تداخل الأجندات العربية مع الأطماع الأعجمية والخارجية وسط عجز الجامعة والقمم العربية عن استنقاذ سوريا وانتشالها من فم التنين عبر إيقاف نهر الدم فيها، وإطلاق عجلة المصالحة والتنمية والاعمار.
وهذا ما حصل ويحصل في ليبيا، التي تتنازعها حكومتان تتسلّح احداهما بشرعية دولية، والثانية بشرعية برلمانية محلية، ويتقاسم النفوذ الميداني فيها ميليشيات متطرفة أسرفت في سفك الدماء وفقاً لأجندات خارجية أعجمية ودولية تغرس مخالبها في النسيج الاجتماعي الليبي وتمزيقه تمهيداً لشفط ثرواته المالية والطاقوية وسط عجز وتخل فاقع للقمة العربية وجامعتها التي تحوّلت في عشريتها الإخيرة الى أداة استدعاء للتدخل الأجنبي بحجة حماية المدنيين.
وهذا ما حصل في لبنان، الذي تداخلت فيه أيضاً أجندات الكوكب المتواطئة مع فساد وإفساد طبقة سياسية غير قادرة حتى على انتاج نفسها، ومتوثبة لتعطيل انتاج غيرها، وما الفراغ في رئاسة الجمهورية والفشل في تشكيل حكومة جديدة، وايضاً في انجاز الاصلاحات الكفيلة بوضع لبنان على سكة التعافي الا أدلة ساطعة على فشل جمهورية الأشلاء اللبنانية القادرة في الوقت نفسه على انجاز اتفاق مريب مع الإحتلال الإسرائيلي حول ترسيم الحدود البحرية، اقتضته المصلحة الولايات المتحدة لتخفيف قبضة فلاديمير بوتين عن أنابيب الغاز والطاقة.
وهذا ما حصل في اليمن وحروبه الدامية، وقد تحوّلت أنقاضه الى منصّة حقيقية لتهديد جواره وتقويض الأمن القومي العربي، وهذا ما كاد أن يحصل في تونس التي تعيش تحوّلات أزمة داخلية عميقة تنتصب جذورها على ادخالها في محاور تعود معاولها الى ما قبل حقبة سنان باشا، وتحاول اليوم الخروج من شرنقة الانهيار الذي يتهددها.
الهشاشة والرثاثة السياسية داخل نصف الدول العربية تحتاج الى جمع شتاتها ولمّ شملها، لأنه فقط عبر إعادة المناعة الوطنية للدول العربية يمكن الحديث عن لمّ الشمل العربي الممزّق بين المحيط والخليج. المطلوب عاجلاً وسريعاً قمم عربية موسّعة أو ضيّقة، يحكمها برنامج عمل انقاذي لكل من الدول العربية المهدّدة بالتلاشي والانقراض، سيّما وأن عدم المبادرة الحكيمة والواعية يعني بدون شك تعميم نموذج انهيار الدولة الوطنية واستنساخه في الدول التي لم تصلها رياح الثورات المسمومة بعد، وهنا علينا ألا نغفل عن الكلام المتسلل هنا وهناك عن ربيع خليجي باتت رياحه القوية قريبة. بهذا المعنى فمعالجة الخلل البنيوي في الدول المأزومة يشكل حماية مطلوبة للأمن القومي العربي والمصالح العربية العليا.
ويرجّح أن الجزائر المسكونة بهاجس الشهداء والوفاء لدمائهم وجهادهم، قد وعت عمق هذه المسألة، فلم تحد قيد أنملة عن رؤيتها التاريخية الداعمة للقضية الفلسطينية بوصفها القضية المركزية التي تناسلت منها وعلى أنقاضها قضايا مركزية أخرى، فقد باتت أزمة ليبيا القضية المركزية للشعب اللبيبي، وباتت محنة سوريا القضية المركزية للشعب السوري، وباتت مشكلة لبنان القضية المركزية للشعب اللبناني، وبات نهر الدم في اليمن بمثابة الهاجس الذي يسكن عقل ووجدان اليمنيين، فيما نهوض العرب الحقيقي يبدأ من حيث وقع الانهيار أي من العراق الذي بات بحق نكبة العرب الكبرى.
يرجّح أن الجزائر التي صنعت تحوّلها الأخير في التحام ثوري نادر بين الشعب والجيش بقيادة الفريق الراحل أحمد قايد صالح أدى لاجتثاث “العصابة” قبل وبعد تسلّم الرئيس عبد المجيد تبون لدفة الحكم والذي تسلّم أمانة الجزائر وتراثها التاريخي في إجبار فرنسا على الاعتذار، كما وفي الوفاء لفلسطين، فسجّلت نجاحاً حقيقياً مطلوباً في إرساء مصالحة فلسطينية بعد شبه تخل مطبق من العرب عن فلسطين لصالح اتفاقات ابراهام المشؤومة.
قمة الجزائر، تحمّل الحكام العرب مسؤولية تاريخية واستثنائية في جمع الأشلاء العربية، كما وتحمّل جزائر الفاتح من نوفمبر نفسها بإرثها وتراثها العربي والإسلامي والإفريقي، فضلاً عن موقعها ودورها المحوري التاريخي في القضايا العربية المصيرية مسؤولية مضاعفة، علّنا نشهد بداية فجر عربي جديد يعصمنا من الذوبان بين أنياب المشاريع الصهيونية والأجنبية والأعجمية.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى