أخبار الرافدين
طلعت رميح

تغيير دولي شامل بلا حرب كبرى!

يقترب اليوم، الذي سيتحدث فيه الناس باستغراب عن النظام الدولي الذي شكلت ملامحه الدبابات والمدفعية خلال الحرب العالمية الثانية.
سيكون عالمنا الحالي مادة للكتابات التي ستنظر له بصفته عالمًا تميز بسذاجة طرق تشكيله وسيتساءلون لماذا احتاج الوصول إليه حربًا استمرت عدة سنوات وقدم فيها عشرات الملايين حياتهم؟
وسيجري التساؤل أكثر، بشأن إصرار من شيدوه على عدم فهم، أن ما كان يوم انتهاء الحرب، قد تغير، باختراع السلاح النووي وتوسع امتلاكه لدى الدول الكبرى، ما جعل الحرب طريقة للدمار الشامل لا ينجو منها أحد.
وبشأن الإصرار على مواصلة هذا النمط من الحروب، ضد دول العالم الثالث، رغم أنها لم تحقق شيئًا سوى الدمار دون حدوث التغيير المستهدف، وذلك ما أثبتته الحروب الأمريكية على أفغانستان والعراق وصربيا، وقبلها في فيتنام ولاوس وكمبوديا، والحرب الروسية على أفغانستان، وبعدها على أوكرانيا.
تلك الحروب أثبتت انتهاء عصر الدبابة والمدفع وأضعفت أهمية وضرورة حشد القوات والسيطرة على الأرض، بل أثبتت أن قصف الطائرات والصواريخ، مهما كانت ضراوته لن يحقق إلا تغييرًا مؤقتًا.
وسيكتب الكثير عن دول كبرى قامت، وأخرى سقطت وعن حدود فرضت وأخرى ألغيت وعن فائز ربح كل شيء وخاسر فقد كل شيء وعن حرب مات فيها ملايين البشر في الخنادق الدفاعية والمواقع الهجومية ليؤكدوا أن هذا التغيير كان وقتيًا في عمر الدول لا أكثر ولا أقل وأن تلك الدول تعود الآن، لكنها محملة بثأر تأريخي. وليقارنوا ما جرى بعالم آخر قيد التشكل الآن، لكن بوسائل أخرى لا تحتاج لخنادق ودبابات مدفعية لإنجاز أهدافها، ولا للحديث والإصرار على أهمية حدود الدول…
عالم آخر مختلف يتشكل الآن، لا نعرف عنه، سوى أنه عالم يتشكل عبر موجات حادة من الاضطرابات والتفجيرات الداخلية والتفكيك وعبر صراع القوميات والأفكار والهويات والحضارات، بأكثر مما هو حرب دول، وأنه يتشكل عبر حراسة خطوط تصدير الطاقة والسيطرة على مناطق إنتاجها وتصديرها ويعتبر أن طرق مرورها أهم من الخرائط السياسية ومن قوانين الأمم المتحدة، وأن العالم الجديد يجري خلال تشكله عملية عميقة لاستعادة اليابسة مكانتها في الإستراتيجيات الدولية لا كحدود دول بل كخطوط لمرور الطاقة.
وما نعرف عن العالم الجديد، أنه عالم يتشكل عبر السيطرة على الممرات والمضايق البحرية وطرق التجارة، إذ الحرب التجارية تدمر نهضة وقوة الدول أكثر مما تفعل الصواريخ وأن الإنجازات في الفضاء باتت عنصرًا أساسيًا في إدارة القوة وتغيير التوازنات بل حتى في منع الحروب العسكرية.
وأن تغيير النظام الدولي، لا يتركز على إعادة رسم خرائط الجغرافيا السياسية للدول بل عبر عمليات إعادة بعث الإمبراطوريات القديمة وخطوط انتشارها الحضارية تاريخيًا، سواءً تلك التي مضت عليها قرون أو تلك التي كانت قائمة قبل الحرب العالمية الأولى.
وأن ما نعرفه هو أن حرب التكنولوجيا وصناعة وحماية الكابلات البحرية الناقلة للإنترنت، هي الأكثر تأثيرًا، إذ ستقف الغواصات والسفن في حمايتها لا في حماية الحدود البحرية، وأن صناعة الأقمار الصناعية في الفضاء وما تنقل، وحرب الفيروسات المميتة والأدوية المنقذة لحياة مليارات البشر، التي بدأتها أزمة كورونا، وأن حرب العملات وتصدير الاستثمارات وحركة الصادرات والواردات والمواد الأولية، خاصة النادرة منها، أهم من إطلاق الصواريخ وقصف الطائرات، وأن عمليات الابتكار، قد ترفع أحداها مقام دولة كاملة وأن الصراع على المياه سيكون أداة سيطرة على عوامل قوة وتماسك العديد من الدول في حركة واحدة ودون طلقة واحدة.
وما نراه حتى الآن، أن الأرض تمتد من تحت أقدام الجميع وإن أنكر الجميع ذلك لذلك، لا يبدو مستغربًا أن تتحدث دوائر الغرب عن تفكيك روسيا وتتحدث روسيا “ميدفيدف”عن تفكك الولايات المتحدة وأن تجري تنبؤات إستراتيجية بنهاية الاتحاد الأوروبي.
هذا العالم الجديد، لا أحد يعرف ملامحه ولا شكله النهائي، وما هو مؤكد حتى الآن أنه لن يكون رهنًا بالطائرات والصواريخ –إلا بقدر أقل- ولا يجب التفكير به، ولا بطريقة الصراع للوصول اليه، وفق الطريقة التي جرى بها التفكير خلال متابعة وفهم التغييرات التي شهدها العالم من قبل.
عالم اليوم يشهد حالة اضطراب خطرة ومخاض تغيير للنظام الدولي، وكأنه انفجار كبير يجري على مراحل، وعبر موجات انفجارية في كل الاتجاهات والمجالات وعبر تأثيرات وأدوات شاملة، وأن التغيير سيكون شاملًا لكل شيء، ولن يكون نتاجه مرهونًا بغزو دولة لأخرى ولا بمعارك المدفعية والدبابات والصواريخ. وحرب أوكرانيا أكبر دليل.
فحين دارت حرب داخلية في أوكرانيا حققت روسيا ما أرادت بأقل خسائر، وحين تدخلت رسميًا وفق نمط الحرب القديمة ها هي قواتها تقف أمام حدود وخرائط لا تستطيع اجتيازها سياسيًا وعسكريًا.
والصراع على تايوان يقدم وضوحًا لرؤية مقاييس التغيير. من ينظر للخريطة لن يرى مساحة تايوان مقارنة بمساحة الصين. ومع ذلك فمن يسيطر على تايوان والصناعة الإلكترونية التي تنتجها يسير خطوة كبرى في تغيير التوازنات الدولية لصالحه .
ومن تابع أزمة كورونا ومن بعد حرب الطاقة يعلم جيدًا أن أدوات تغيير العالم صارت أوسع وأعمق.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى