أخبار الرافدين
كرم نعمة

ومتى كان غير حديث التصدع في العراق؟

هناك ما يمكن أن نسميه بـ “ثقافة العبث” في العراق، عندما يُتعب عراقيون أنفسهم بتأمل المشهد على أنه من الطبيعي أن يوضع تحت مجهر التحليل. فيمكن الحديث عن الاقتصاد وفق مدونة العلوم الاقتصادية، أيضا يمكن معاملة السياسيين وكأنهم نتاج مدارس سياسية وحزبية معتدة ببرامجها الوطنية، وليست دكاكين طائفية تبيع السياسة أشبه بمسحوق الصابون.
ذلك أشنع ما في عبث الكلام عندما يمكن إدراجه ضمن جمع المؤشرات السياسية لبناء تصورات وسيناريوهات مقترحة عليها، أو في قراءة مستقبلية.
ارتفع منسوب هذا العبث وتحول الصراخ السياسي إلى تهريج اقتصادي متعلق بارتفاع سعر تصريف الدولار مقابل الدينار العراقي، إلى درجة وصلنا فيها إلى الاستعانة بلصوص الدولة الأحياء منهم والأموات من سيئ الذكر باعتبارهم من شرفاء الحل الاقتصادي!
كان من بين ذلك التسجيل القديم لأحمد الجلبي بوصفه الوطني الحريص على ثروة العراق، وكأنه ليس من كبار الطبقة الاوليغارشية التي حولت البنوك في العراق إلى ما يشبه لعبة الأفعى والسُلم.
عندما انكشفت أكبر سرقة للدولة في التاريخ السياسي المعاصر بإدارة رئيس الحكومة الأسبق نوري المالكي بالاستيلاء وتبذير مئتي مليار دولار من ثروة العراق، تهكم أحد الزملاء بقوله “هؤلاء اللصوص في حزب الدعوة طالما أوجعوا رؤوسنا على مدار عقود بكتاب محمد باقر الصدر (اقتصادنا) بوصفه الحل المثالي لاقتصاد العالم، لكنهم بمجرد تطبيق تلك النظرية خلال ثماني سنوات سرقوا ثروة البلاد”!
ليس مهما هنا قيمة مضمون كتاب “اقتصادنا”، بقدر أهمية “العبث الثقافي” عندما يتعلق الأمر بالاقتصاد والسياسية في العراق، فالحديث عن التصدع وكأنه مفاجأة هو استغفال للعقول وكأن كل الذي يحدث منذ عام 2003 كان سويا، كي نتفاجأ اليوم بارتفاع سعر تصريف الدولار مقابل الدينار العراقي.
مع أن الأمر ببساطة متناهية، دولة اللصوص القائمة في العراق تمتلك نفطا تبيعه وتسرق ثلاث أرباع ثمنه وتوزع الربع الآخر بشكل رواتب على جيش من الموظفين غير المنتجين في بلد أريد له أن يكون عاطلا عن العمل.
وهكذا أدار قادة الميليشيات والسياسيون عملية فساد كبرى يصعب مع استمرارها احتساب ما تم سرقته من العراق منذ عام 2003، فقد أبرمت الصفقات بشكل نقدي وأصبح من الصعب الحصول على الوثائق التي تثبتها. ومع ذلك فإن المعلومات المتاحة تشير إلى أنه تم نهب ثروات العراق بشكل غير قانوني إلى خارج البلاد أكثر من أي دولة أخرى.
فأين تكن المفاجأة أذا؟
لا شيء! إلا ما يمكن تسميته بجهد الكلام الخاسر، فلا شيء غير ما يحدث في العراق الاقتصادي لا يمثل إلا أصحابه من حكومات المنطقة الخضراء. إنها حكومة منتهية الصلاحية، لكن من قدر التراجيديا العراقية، تقدم تلك الحكومة نفسها كطبق سياسي طازج، كما يفعل رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني، وليس طعاما فاسدا يزيد من أمراض العراقيين.
اليوم تتحدث الولايات المتحدة عن وضع شريحة الكترونية في الأوراق النقدية لتعقب تحرك الدولار، وتلك الفكرة التي يسميها البعض بـ “الفذة” للعقول الاقتصادية، راودت خبراء جرائم غسيل الأموال مع تهريب الدولار من العراق إلى إيران. بيد أنها جزء مكمل من ثقافة العبث، وكأن الولايات المتحدة لم تكن مصدرا لتلك الفوضى المالية التي أدارها لصوص الدولة القادمين معها لاحتلال العراق.
واحدة من أكبر عمليات السرقة التي مهدت لها قوات الحاكم الأمريكي للعراق بول بريمر، ما سمي حينها بمزاد الدولار، وهو ما يعرف إلى اليوم “بنظام الصرف الصحي للفساد العراقي” وفق تعبير الصحفي البارع روبيرت وورث، لكن قلما كُتب عن آليات عمله الداخلية.
فإطلاق اسم المزاد تعبير مضلل، لأنه يعبر عن عملية احتيال يشترك فيها البنك المركزي العراقي في إدارة عملية يومية يقدم فيها الدولارات لعدد محدود من المصارف التجارية مقابل الدينار العراقي.
فيما يتم استخدام بعض هذه الأموال من أجل تغطية الواردات الحكومية والمتطلبات الأخرى التي تحتاجها، فإن الكثير من هذه الأموال تمرر إلى البنوك التجارية، بهدف ظاهري يتمثل في تغطية تكاليف واردات القطاع الخاص، وهي عملية سيطرت عليها كارتلات تبييض الأموال المرتبطة بالأحزاب والميليشيات في العراق منذ فترة طويلة.
فهل بقي بعدها ما يمكن أن يوضع تحت قواعد العلوم الاقتصادية من أجل إيجاد الطريق السليم لاقتصاد البلد.
تقودنا الإجابة هنا، ببساطة متناهية، إلى عبث الكلام والمشاركة في جهد خاسر لا محالة، لأن العراق في وضعه الحالي لا يخضع لمفاهيم الدولة السوية كي نتحدث بعدها عن اقتصاد طبيعي يخضع لمفهوم العرض والطلب.
في يوم ما كتبت عن نبوءة شكسبير عن العراق، وبات عليّ أن اقتبسها من نفسي هذه المرة وأنا اتأمل حفلة السخرية المتواصلة من عقولنا عن سعر صرف الدولار في العراق.
فشكسبير نبوئي كبير عندما يتعلق الأمر بالأخبار السيئة فالبشر ضعفاء، غير أخلاقيين، شهوانيون، مخادعون، قتلة، غيورون، متهورون، مجانين، وفي سعي الناس للحصول على السلطة، بات شيوع الموت والكوارث من متلازمات الحياة، حسبما يرى.
لعل ذلك ليس الأمر الوحيد عندما يتم ربط كاتب المسرحيات في العصر الإليزابيثي، بالعراق، بوصفه مثالا تاريخيا للتنبؤ بالأخبار السيئة.
لقد ترك شكسبير نبوءته الحافلة بالحكمة والشرور والكرامة والعزيمة والنذالة، لكنه لن يكون هادئا لو تسنى له كتابة التاريخ المعاصر للقيم، سيجد بلاد النهرين الشاحبين مثالا لما أصاب الإنسان من تصحر قيمي، وبدت الكرامة في أوطأ درجاتها تاركة سلّم القيم إلى الغرائز والهويات الضيقة الطاردة للوطنية.
فالمسرح العراقي السياسي والاقتصادي اليوم شكسبيري في تراجيديا راديكالية تكشف مقدمتها كلام نوري المالكي وقيس الخزعلي وعمار الحكيم عن “شرف” الاقتصاد الوطني! وتجسد المثال الأكثر خطورة في المأساة العراقية المتواصلة عندما يتم الاستعانة بالقطط الميتة من… إلى أحمد الجلبي بوصفهما مثالا للحل الاقتصادي للعراق!

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى