أخبار الرافدين
كرم نعمة

حرب الحمقى على الموتى

بعد الانتخابات البرلمانية العام الماضي تساءل أحد الزملاء إذ كان بمقدور مقتدى الصدر الذي فشل في إدارة فوز تياره البرلماني، أن ينجح في استثمار فشله في تشكيل الحكومة بقلب العملية السياسية على رؤوس مشيديها، بينما كتبتُ منذ الساعات الأولى لفوز التيار الصدري في الانتخابات بأن مقتدى لم يكن حلا، ولن يزيد التيار الصدري العراق إلا مِحَنا.
كان زميلي على حق في تسائله التهكمي، مثلما كان توقعي أشبه بقراءة لواقع سياسي مترهل منتهي الصلاحية في العراق. ولا يمكن أن يكون مقتدى بوعيه القاصر جزء من الحل.
اليوم مقتدى يتطفل على الواقع والتاريخ على حد سواء، كي يعبر بصلف ووقاحة عن جهله إثر فشله السياسي، بعدما حشر كلامه بقواعد تفسير النص القرآني في مسعى يغفل ضوابط فهم هذا النص والعلوم المرتبطة به. ثم عزى زلزال تركيا إلى انتقام إلهي بعدما تخاذل المسلمون عن حفظ القرآن الكريم من عمليات الاعتداءات من قبل عناصر شاذة من اليمين المتطرف في أوروبا. “علينا العودة هنا إلى ما قام به أنصار مقتدى نفسه بمهاجمة مساجد وحسينيات أنصار محمود الصرخي وتمزيق القرآن الكريم ولعب كرة القدم داخل تلك المساجد”!
ولم يجد مقتدى الصدر غير أن يعود الى معاوية بن أبي سفيان ليطالب بمنع عرض مسلسل درامي عن سيرته التاريخية “قبل عرضه” وقبل التعرف على ثيمته! مع أنه في النهاية يبقى عملًا دراميًا يخضع للتحليل الفني، ولا يمكن أن يوضع تحت مشرحة النقد والتحليل العلمي والمعرفي، إلا على يد مختصين في التاريخ والسير وحضارات الأمم، ومؤكد أن مقتدى بعقليته الجاهلة ليس منهم.
بدا لي من المفيد، مع تطفل مقتدى على التاريخ هذه المرة، العودة إلى كتاب الفيلسوف الأمريكي هاري فرانكفورت عندما نشر منتصف ثمانينات القرن الماضي مقاله الشهير “فيما يتعلق بالهراء” من دون أن يتوقع أن الهراء “سينتج” نماذج فاعلة في العراق مثل مقتدى.
“صدرت لاحقا ترجمة عربية للكتاب بعنوان في الهراء والتهريج”.
ولأن مقتدى لم يقرأ هذا الكتاب كما لم يقرأ تاريخ الخلاف السياسي بين معاوية وعلي “رضي الله عنهما” فأنه من المفيد التوصل إلى أن العبث الطائفي والتاريخي المتصاعد في العراق أوصل كلفة الهراء إلى ثمن أقل من الصفر، لذلك هو متاح للذين لا يمتلكون القدرة على التفكير.
كانت فكرة فرانكفورت البارعة هي أن الهراء يكمن خارج نطاق الحقيقة والأكاذيب. فالكاذب يهتم بالحقيقة ويرغب في طمسها. ومن يتفوه بالهراء لا يبالي بما إذا كانت أقواله صحيحة، “فهو يختارها فقط، أو يصنعها، بما يتناسب مع غرضه”. لذلك الحمقى وحدهم من يشنون حرباً على الموتى، كمصدر لصناعة الهراء التاريخي، وما أكثرهم في العراق اليوم!
لا يمكن الحديث عن مسلسل درامي لم نشاهده أصلا، كما أن تاريخ معاوية وعلي أكبر من قدرة مقتدى على مجرد التفكير به وتحليل مضامينه، وهو ليس بأمر جديد وطالما أختلف المؤرخون بشأنه، إلا أن الاتفاق المعتدل هو الهدف من قراءة التاريخ وتحليله وليس لاستثماره في بث الضغائن والكراهية لإفساد الحاضر. ذلك ما تدفع إليه العقول القبورية في جعل مشكلتنا مع التاريخ، وليس العمل من أجل حاضر مستقر والبحث في طرق آمنة لصناعة المستقل.
لا يمكن أن يعوّل على مقتدى في قراءة التاريخ حتى من أطراف المراجع الشيعية التي لا تثق به أولا كشخص، وتدرك تماما طريقة تفكيره، لذلك تحمي نفسها ومصالحها منه، فهو بلا رصيد معرفي، وتاريخه الشخصي في صناعة النظام الطائفي القائم في العراق أسوأ من مجزرة.
لم يكن مقتدى الأول في النظر الى التاريخ بعين مغمضة، لكن تطفله على مسلسل درامي تاريخي يضيف المزيد من الازدراء باعتباره مصدرا مستمرا للهراء الطائفي المتصاعد في العراق.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى