أخبار الرافدين
محمد الجميلي

في الذكرى الثامنة

رحل الشيخ العالم المجاهد حارث سليمان الضاري في مثل هذا اليوم قبل ثماني سنوات، لم يُنسَ ذكرُه في قلوب العراقيين والعرب والمسلمين، الذين عرفوا صدقه، وكريم سيرته، وعظيم ثباته، وجليل مكانته، وأما كارهوه ومبغضوه، فما عسى أن يفعل كاره النجوم بها، وما يبلغه من ضر كادوه له، بحفظ الله له في حياته، وبرحمة الله له بعد موته، فليزيدوا في حسناته ما استطاعوا.
لقد عرفت الشيخ الراحل عن قرب لسنوات ذوات عدد، لقاءات كثيرة في مضيفه العامر في منطقة خان ضاري غرب بغداد، وفي مقر هيئة علماء المسلمين في العراق بجامع أم المعارك (أم القرى)، وفي مقره في سورية الجريحة، وعند زيارته لمصر لحضور المؤتمرات الدينية أو السياسية، وفي مقر القناة لتسجيل اللقاءات معه أو للإطلاع على أحوال العمل فيها، وكذلك في مضيفه في الأردن، ومؤخرا ولسنوات متتابعة في تركيا حيث مقر القناة الجديد، والمؤتمرات الكثيرة علمية وسياسية عراقية وسورية وفلسطينية وإسلامية؛ وكان في كل السنين وفي كل الأحوال، لا يختلف سره عن علانيته، ما يقوله في الإعلام، هو عين قوله لزواره ومقربيه في مضيفه، الحق على لسانه، لا يتلجلج به ولا يتلعثم، لم يهب الغزاة وجبروتهم، حين جاهر بدعم المقاومة ونافح عنها وباركها، وفرض على العرب وحكومة الجعفري سيء الصيت، الاعتراف بها كحق مشروع للشعب العراقي بوجه الاحتلال، يوم كان عملاؤه يصرون على جعل يوم سقوط بغداد في التاسع من نيسان عيدًا وطنيًا، ويوم قدم الجعفري رئيس حكومة الاحتلال ما يسمونه سيف علي هدية لرامسفيلد وزير الحرب الأمريكي الذي قاد جيش بلاده في غزو العراق، أولئك الذين صفقوا للاحتلال وهللوا له وقدموا له الشكر تلو الشكر، بل ذهبوا إلى أمريكا حيث قبور القتلى من الجنود الأمريكان الذين قتلوا على يد أبطال المقاومة ليقرؤوا الفاتحة على قبورهم، وهم اليوم يدعون زورًا مقاومة الاحتلال ويسمون أنفسهم محور المقاومة، وما هم إلا عملاء أراذل لا شرف لهم ولا حياء.
لقد وهب الله الشيخ الراحل قلبا قويًا بقوة إيمانه وعبوديته لله وحده، أعانه الله به على الثبات عند الملمات، والصبر في مواطن الخطوب والكريهات، ومع هذه القوة فهو قلب شفاف رقيق يملؤه الحنان، إن وجدت يومًا زجاجًا نقيًا صافيًا لا يمكن كسره، ومع ذلك هو كالحرير في رقته، فذاك هو قلبه رحمه الله.
أنعم الله على الشيخ الراحل بنفس أبية كريمة عفيفة، لا تقبل ضيمًا، ولا ترنو لما يسيل له لعاب المفتونين والمغرورين بمباهج الدنيا وزينتها، ولولا ذلك لما وقف كالطود الشامخ أمام العروض المغرية من وفود الأمريكان أو من يرسلونهم، طمعًا أن يتخلى عن مناهضته للاحتلال ودعمه للمقاومة، والدخول مع الداخلين إلى زريبة العملية السياسية ومغانمها وبهرجها، أو بوجه العروض الإيرانية التي أيست من استدراجه للقبول بزيارتها، وكانت تعرض عليه أن تستقبله استقبال الملوك وتفرش له السجاد الأحمر، وكان يقول لمبعوثيها؛ ارفعوا أيديكم عن العراق وعن التدخل في شؤونه، ودعوا الشعب العراقي يقرر مصيره بنفسه، وأنا حينها سأزور إيران بلا سجاد أحمر أو أخضر.
يرحم الله ذلك العالم المجاهد عاش عمره بعد احتلال العراق، لقضية وطنه وتحريره واستقلاله، أكاد أجزم أن وقته كله كان لهذا الأمر العظيم، وما ترك بابًا تمكن من الوصول إليه، إلا طرقه لتحقيق هذا الهدف الواجب على كل مسلم، وحث العرب والمسلمين بكل الوسائل على استنقاذ بغداد، وتدارك أنفسهم من البلاء المحيق بالعراق، قبل أن يتطاير شرره إليهم، وتصل نيرانه إلى عقر دارهم، وكان لهم الناصح الأمين، ولكن سطوة أمريكا الفاجرة كانت تسوق العرب كلهم إلى دعم مشروع الاحتلال والقبول بعمليته السياسية الطائفية المدمرة.
كان الشيخ الراحل إنسانًا نبيلًا، يريد الخير لكل أهل العراق، خبيرًا وعالمًا بما يخطط له الغزاة وأعوانهم لتمزيق البلد والمجتمع، حريصًا على تبصيرهم بما يحاك لهم، يتقطع قلبه حسرات على قومه، وهم يوغلون في تنفيذ أجندات الاحتلال، أو يحرضون الغزاة وحكوماته والعرب عليه، بحجة التشدد ودعم خيار المقاومة، أو بذريعة مهاجمة العملية السياسية التي ذاقوا حلاوة مناصبها ومغانمها، وهو يهز رأسه مرة، أو يتبسم باكيًا من قولهم، فمن رأى منكم المتبسم الباكي كما رأيته أنا في وجه وعيني الراحل الكبير؟!
في ذكرى رحيلك الثامنة، ونحن والعراقيون جميعهم يرون تحقق ما كنت تحذر منه، ببصيرتك وإخلاصك وصدق نصحك، ندعو لك بواسع الرحمة وعظيم المغفرة، وأن يعلي الله منزلتك، ويرفع درجتك، ويجزيك عنا وعن العراق، خير ما جزى مصلحًا في قومه، ومجاهدًا في سبيله، ومعلمًا للخير، فاللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده، وأخلف لنا خيرًا إنك على كل شيءٍ قدير.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى