أخبار الرافدين
طلعت رميح

الصراع على بوتين!

جرت تفسيرات متعددة للزلزال الذي شهدته روسيا الأيام الماضية. وجرى الحدث بسرعة البرق وانتهى بنفس السرعة، حتى بدا أشبه بفيلم خيالي.
تعددت التفسيرات. قيل إنها لعبة بوتينية وجرى تحوير حركة الأحداث وإعادة صبغها بأفكار رغبوية. وقيل إن دافعها هو الرد على عملية “تأميم” وزارة الدفاع الروسية لشركة فاغنر الخاصة. وعلى النقيض، قيل إن ما جرى حدث كبير هز ثقة الدولة والمجتمع ببوتين ونظام حكمه، وأن روسيا عاشت وقائع انقلاب لم يكتمل، سيكون له تبعات خطيرة، وأن تحرك قوات شركة فاغنر هو بداية التغيير في روسيا، وأن الأحداث ستتوالى وستؤثر على مصير النظام القائم، إذ كان لافتا أن تقدمت مجموعات شركة فاغنر، على قلة أعدادها وضعفها مقارنة بالقوات الروسية، بسرعات قياسية داخل المدن الجنوبية، حتى باتت على بعد 200 كيلو متر فقط من العاصمة موسكو، دون أن تواجه مقاومة أو قتال مع الجيش الروسي.
ورأى البعض –امتنع عن التوصيف- أن الأهم هو النتائج، وأبرزها أن قوات من شركة فاغنر أصبحت الآن على أراضي بيلاروسيا وهي الحليف الأهم على المستوى الإستراتيجي لروسيا وقيادتها، وأن خطوة جديدة تحققت على صعيد تعزيز قدرة بيلاروسيا العسكرية، إذ أصبح على أرضها الآن، صواريخ نووية روسية، وقوات عسكرية ذات خبرات قتالية معاصرة، بما أقلق حلف الناتو خاصة بولندا، ومنح القوات الروسية القدرة على الحركة من أراضي بيلاروسيا لإقامة منطقة عازلة في شمال أوكرانيا، وتهديد كييف التي لا تبعد عن الحدود البيلاروسية سوى نحو 100 كيلو متر فقط.
وإلى جانب كل ذلك، فهناك تفسير آخر هو الأكثر أهمية على الصعيد الإستراتيجي. فتحرك فاغنر بكل أبعاده السياسية والشعبية والعسكرية، يظهر قدر الاضطراب الحادث في روسيا خلال التحولات التي تشهدها. فروسيا تشهد تحول النهج البوتيني السياسي إلى نهج فكري وحضاري شامل، بما يجعل الصراع ضاريا. وهو تغيير يتشابه مع نمط التحولات الجارية في تركيا، مع اختلاف طبيعة التوجه، إذ تنفصل روسيا الآن عن الغرب حضاريا وفكريا وتدخل مرحلة تشكيل هويتها المستقلة التي سبق وأن تغولت عليها الهوية الحضارية الغربية. وفي هذا التحول تعيش روسيا تحت تأثير مجموعة عوامل وأسباب ذات منابع متعددة، منها استعادة الكرامة الوطنية أمام الغرب بعد انكسار وإذلال الروس إثر انهيار الاتحاد السوفيتي وإضعاف روسيا واختراقها، ومنها ظهور ملامح لمجموعات قومية روسية تتدفق قوتها الجماهيرية على خلفيات تاريخية تتعلق بتاريخ الإمبراطورية الروسية. ومنها تشكل مجموعات على خلفية إحياء للأرثوكسية، وأخرى على خلفيات رؤى جيبوليتيكية تتعلق بالفكرة الأوراسية. وهناك من يطرح الفكرة الوطنية العامة للاستقلال عنوانا ويرى ضرورة تغيير حركة روسيا التاريخية والخروج من دورة حكم النمط القيصري إلى دائرة الحكم الليبرالي.
وكل هؤلاء وغيرهم يتصارعون على بوتين الآن وعلى ما أنجز.
لقد بدأ بوتين مسيرة استعادة روسيا، لوطنيتها وعافيتها على الصعد السياسية والعسكرية والاقتصادية، دون أن يطرح رؤية حضارية للاستقلال عن الحضارة الغربية، أو لنقل إن بوتين لم يدخل في صدام حضاري مع الرؤى والبنى الحضارية الغربية طوال مرحلة إعادة تأسيس عوامل القوة الوطنية لروسيا، إذ جرى التركيز على تطوير مفاهيم ومنظومات الأمن القومي الروسي من منظور وطني، وعلى إعادة بناء الدولة والاقتصاد والقدرات العسكرية.
لكن الوضع تغير مع بدء الحرب على أوكرانيا، وفي أثنائها، إذ أبرز بوتين هوية حضارية متصادمة مع البنى الحضارية الغربية المهيمنة داخليا وخارجيا، وبات واضحا أنه يعتمد الأرثوذكسية والقومية والإرث التاريخي للحكام التاريخيين لروسيا. وقد كان الإعلان الأهم لهذا التحول قد ورد في الخطاب الافتتاحي للحرب على أوكرانيا.
والآن تعيش روسيا مرحلة الفصل والعزل في داخل النخب الفكرية والمجتمعية، بل حتى العسكرية. وبشكل خاص بين التيار الذي تعايش مع ممارسات ونهج بوتين السياسي والاقتصادي والعسكري، وبين فصائل التيار الحضاري- القومي الذي توسع وتعمق دوره خلال مواجهة المجتمع والدولة الروسية لمعضلات المواجهة الحضارية الشاملة التي جرتها الحرب الأوكرانية على روسيا.
ولذلك فالأهم فيما يجرى الآن في روسيا ليس الصراع السياسي، أو العسكري أو استهداف هذا أو ذاك من القادة العسكريين من منظور التقصير أو التآمر، بل النظر لهذا الزلزال باعتباره عنوانا لصراع جار على خلفية تغيير البنى الفكرية والحضارية وليس صراعا سياسيا فحسب.
وإذ يقال إن الغرب تدخل في الأحداث بالتآمر أو أن هناك اختراقات جرت، فالحدث عميق ومؤثراته وأبعاده ترتبط بأبعاد حضارية- قومية.
الآن تشهد روسيا صراعا على بوتين وليس على إنجازات بوتين فقط. وهناك من أراد أن يقول له لا تتوسع في دعم التيارات الأخرى وأن هذا سيوردك المهالك. وذلك هو حال كثير من الدول التي تشهد وصول مجددين إلى هرم سلطتها السياسية دون ثورات شعبية، إذ يصبح الفرد والمجموعة أو الكتلة السياسية الحاكمة عنوانا لتغييرات بنيوية جارية في المجتمع.
ولذلك، فالأهم فيما يجرى أن تجربة بوتين، كما هو حال تجربة أردوغان، دخلت في مرحلة إعلان الاستقلال الحضاري- القومي، وأن الصراعات التي تجري هي انعكاس لتلك الحالة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى