أخبار الرافدين
طلعت رميح

تركيا من الدولة الحائرة إلى المسيطرة

منذ بداية حرب روسيا على أوكرانيا والأعين على تركيا. كيف ستتصرف وهي صاحبة مصالح حيوية ومتعددة مع روسيا، فيما تجرى الحرب فعليا بين روسيا والأطلسي الذي تنتمي إليه تركيا إستراتيجيا، وكذا لأن لتركيا مصالح إستراتيجية ثابتة في المنطقة محل الحرب، بحكم التبعية التاريخية لجزيرة القرم لتركيا تاريخيا، أو لأن الحرب تجرى للسيطرة على البحر الأسود الذي هو عمق حركة مصالح تركيا.
وإذ توقع البعض، أن تنحاز تركيا لهذا الطرف أو ذاك فتفقد مصالحها المتراكمة، فقد لاحظ المتابعون أن السياسة الخارجية التركية تحركت بطريقه سلسة بين النقيضين، وأنها اختطت سياسة وطنية تحقق مصالحها مع الطرفين المتحاربين، دون إضرار بوضعها الإستراتيجي.
الأكثر دهشة للمتابعين، أن تركيا التي رفضت العدوان الروسي وأمدت أوكرانيا بالمسيرات الحربية المتطورة، التي استخدمت ضد القوات الروسية في الحرب، هي ذاتها من رفضت الانصياع لقرار حلف الأطلسي بحصار روسيا، وأنها حافظت على مصالحها مع روسيا، على صعيد تدفق السياحة الروسية واستمرار تنفيذ عقود بناء موسكو لمفاعلات نووية في تركيا. ووصل الأمر إلى حد أن تمكنت تركيا من لعب دور الوسيط في قضايا حيوية كقضية الحبوب وتبادل أسرى الحرب.
وتكررت نفس الحالة خلال انعقاد قمة الأطلسي الأخيرة، بشأن الموقف التركي من انضمام السويد للحلف. كانت تركيا واقعة تحت ضغوط وعقوبات مالية وتسليحية مؤثرة فرضتها الولايات المتحدة ومعظم أعضاء الحلف، وفي الجانب الآخر، فلتركيا مصالح تقتضي وقف الدعم السويدي الذي يجرى نيابة عن دول غربية عديدة لمنظمات إرهابية تهدد أمن تركيا. كما أن مصالح أنقرة تقتضي عدم فقد ورقة هامة تؤثر على مصالحها مع روسيا، إذ تنظر موسكو لانضمام السويد بعد فنلندا كخطر إستراتيجي عليها.
وأصيب الكثير من المتابعين بالدهشة حين تمكنت تركيا من الوصول إلى مساومة تضمن لها مصالحها لدى الغرب، دون أن تدخل في صدام عدائي مع روسيا المعنية الأكبر بتوسع الأطلسي على حدودها. وإن تمكنت تركيا من إيجاد صيغه تضمن ربط موافقتها النهائية على انضمام السويد بتمام الحصول على ما تعهدت به الدول الغربية لها.
وقبلها كانت تركيا، قد وضعت أمام موازنات مشابهة في علاقاتها وبشأن مواقفها تجاه إيران والخليج والعلاقات مع مصر وغيرها.
وفي محاولة فهم ما يجري، فقد تعددت التوصيفات والتفسيرات، فهذا يقول البراغماتية والنفعية، وذاك يتحدث عن تغيير بندولي للحركة في الخارج تحت الضغط، وعن نقل العطاء والانتقال من الارتباط بروسيا إلى الارتباط بأوروبا. ووصل البعض في المنطقة العربية إلى إطلاق أوصاف من النوع الذي تعود الكثير على التعامل بها مع السياسات الخارجية لبعض الدول العربية التي تعيش حاله ذيلية للخارج.
وواقع الحال أن ما شاهدناه من قدرة وتمكن في حركة تركيا الخارجية لا يعود فقط إلى حالة الذكاء السياسي والإستراتيجي في إدارة السياسات، ولكنه يرتبط بظروف موضوعية أدت إلى وضع المفهوم القديم القائل بالثنائية على الرف، وهو مفهوم سائد بالمنطقة العربية، إذ كان يقال دوما إن تركيا إما أن تتوجه لأوروبا أو تتوجه للشرق الأوسط أو لروسيا، وبالدقة يعود إلى تحول تركيا من دوله حائرة في داخلها ومنقسمة حول ذاتها، ومن دوله تعيش حرب أهلية ثقافية بين الدولة والمجتمع وبالتالي مخترقه يتجاذبها الآخرون، إلى دولة متصالحة مع ذاتها وقادرة على بناء إستراتيجياتها باستقلال.
وواقع الحال أن تركيا عانت من متناقضات داخلية وخارجية ما بعد نهاية الإمبراطورية العثمانية وتحولها إلى دولة تركيا.
فمجتمع تركيا الإسلامي، كان يحكم بنخبه متغربة وفي حالة موحشة من العلمانية، وهو ما جعل سياسة الدولة تسير في اتجاه والمجتمع في اتجاه آخر، وجعلها تعيش حالة حرب أهلية ثقافية مستديمة بين النخبة الحاكمة، وأعلى مراتبها القوة العسكرية، والمجتمع المسلم.
وكانت تركيا دولة حائرة بين حاضرها وماضيها. كانت دولة حاكمة للمحيط سواء العربي والإسلامي وفي الاتجاه الأوروبي وفي اتجاه الدول الناطقة بالتركية، فتحولت إلى دولة وطنية محكوما عليها بعدم التطلع لمصالحها التي أسست تاريخها ومجدها، بل هي وجدت نفسها في وضع التبعية للغرب.
وإذ تحولت من إمبراطورية مسيطرة إلى دوله تابعة، فقد تفاقمت تناقضات حالة أمنها القومي باعتبارها واقعة في جغرافيتها السياسية بين الدول العربية في جنوبها وأوروبا في شمالها وروسيا والدول الناطقة بالتركية في شرقها.
هكذا وصفت تركيا بالدولة الحائرة. وتحول الوصف إلى مفهوم عام حاكم ويجري توقع وتحليل تصرفات تركيا وسياستها الخارجية على أساسه، وجرى النظر من خلاله للخطط والتحركات التركية في مواجهة الأزمات وفي إدارة العلاقات الإقليمية والدولية.
لكن تركيا خرجت من هذا الوضع ونبذت هذا الإطار المفاهيمي والإستراتيجي وباتت دوله ثابتة في ذاتها، متصالحه مع نفسها وبين الدولة والمجتمع، وقادرة على تحويل ما كان قد جعلها دولة حائرة، إلى فرص إستراتيجية لتحقيق مصالحها.
لم تعد تركيا الدولة الحائرة التي تبحث عن ذاتها ومصالحها بالالتحاق بالآخرين، وباتت بلد يملك وضوحا مفاهيميا وإستراتيجيا كدولة محددة الذات والتوجهات وواضحة المصالح.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى