أخبار الرافدين
21عاما على احتلال العراق: فشل وفساد سياسيتقارير الرافدين

الغطرسة الأمريكية تحول دون تحقيق العدالة في جرائم سجن أبوغريب

ما يزال العراقيون الذين تعرضوا للتعذيب من قِبل عناصر أمريكيين بلا سبيل للحصول على الإنصاف أو الاعتراف من الحكومة الأمريكية، رغم أن آثار التعذيب أصبحت واقعا يوميا للعديد من الضحايا العراقيين وعائلاتهم.

بغداد – الرافدين
قالت “هيومن رايتس ووتش” إن الحكومة الأمريكية تقاعست عن تقديم تعويضات أو سبل إنصاف أخرى للعراقيين الذين عانوا من التعذيب وغيره من الانتهاكات، رغم مرور عقدين على ظهور أدلة على إساءة القوات الأمريكية معاملة المعتقلين في سجن أبو غريب وغيره من السجون التي أدارتها الولايات المتحدة في العراق.
وبعد الاحتلال الأمريكي للعراق في 2003، احتجزت الولايات المتحدة وحلفاؤها نحو 100 ألف عراقي بين 2003 و2009.
ووثّقت “هيومن رايتس ووتش” ومنظمات أخرى التعذيب وغيره من أشكال سوء المعاملة على يد القوات الأمريكية في العراق.
وقدم ضحايا الانتهاكات لسنوات شهاداتهم حول المعاملة التي تعرضوا لها، لكنهم لم يتلقوا سوى اعترافا ضئيلا من الحكومة الأمريكية، ولم يحصلوا على أي تعويض. وفق الحظر المفروض على التعذيب بموجب القانون المحلي الأمريكي، و”اتفاقيات جنيف 1949″، و”اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة”، والقانون الدولي العرفي، هو حظر مطلق.
وقالت سارة ياغر، مديرة مكتب “هيومن رايتس ووتش” في واشنطن “بعد مرور 20 عاما، لا يزال العراقيون الذين تعرضوا للتعذيب على يد عناصر حكوميين أمريكيين بدون سبيل واضح لرفع دعوى أو الحصول على أي نوع من الإنصاف أو الاعتراف من الحكومة الأمريكية. وأشار المسؤولون الأمريكيون إلى أنهم يفضلون وضع التعذيب خلفهم، لكن الآثار الطويلة الأمد للتعذيب ما تزال واقعا يوميا للعديد من العراقيين وعائلاتهم”.
وبين نيسان وتموز 2023، قابلت “هيومن رايتس ووتش” المعتقل السابق في سجن أبو غريب طالب المجلي، بالإضافة إلى ثلاثة أشخاص على علم باحتجازه وقضيته بعد إطلاق سراحه، ورغبوا في عدم الكشف عن هويتهم. وقابلت المنظمة أيضا محاميا عسكريا أمريكيا سابقا عمل في بغداد العام 2003، وعضوا سابقا في “المفوضية العليا لحقوق الإنسان” العراقية، وممثلين عن ثلاث منظمات غير حكومية تعمل في مجال التعذيب.
وراجعت المنضمة أيضا تقارير إعلامية وتقارير غير حكومية، وكذلك وثائق حكومية أمريكية، بما فيها تحقيقات وزارة الدفاع الأمريكية في مزاعم إساءة معاملة المحتجزين.
وقال المجلي إن القوات الأمريكية عرضته للتعذيب وغيره من أشكال سوء المعاملة، بما فيها الإذلال الجسدي، والنفسي، والجنسي أثناء احتجازه في سجن أبو غريب بين تشرين الثاني 2003 آذار 2005.
وأضاف أنه كان أحد الرجال الذين ظهروا في صورة من أبو غريب انتشرت على نطاق واسع تظهر مجموعة من السجناء عراة وفوق رؤوسهم أكياس وهم مكدسون فوق بعضهم البعض في هرم بشري، بينما يبتسم جنديان أمريكيان خلفهما.
وأوضح “أمرنا جنديان أمريكيان، رجل وامرأة، بالتجرد من ملابسنا. كوّمونا، سجينا فوق سجين. كنت واحدا منهم”.
وقال إن القوات الأمريكية اعتقلته أثناء زيارة لأقاربه في محافظة الأنبار العام 2003.
وأضاف “في صباح 31 تشرين الأول 2003، حاصرت القوات الأمريكية القرية التي كان يعيش فيها عمي. أخذوا أولادا وشيوخا من القرية. أخبرتهم أنني ضيف من بغداد وأعيش في بغداد وجئت لزيارة عمي. وضعوا غطاء على رأسي وربطوا معصميّ برباطات بلاستيكية. وضعوني في عربة هامر”.
وبعد قضاء بضعة أيام في قاعدة الحبانية العسكرية ومكان مجهول في العراق، نقلت القوات الأمريكية المجلي إلى سجن أبو غريب. وقال إنه بدأ التعذيب حينها “نزعوا ملابسنا. تم الاستهزاء بنا والأكياس فوق رؤوسنا، لا حول لنا ولا قوة. تعذيب بالكلاب البوليسية، والقنابل الصوتية، وطلقات النار الحية، والمياه في الزنزانات”.
وقالت “هيومن رايتس ووتش” قصة احتجاز طالب المجلي في أبو غريب قابلة للتصديق. حيث قدم أدلة تعزز روايته، منها بطاقة هوية سجين تحمل اسمه الكامل ورقمه ورقم الزنزانة، والتي قال إن القوات الأمريكية أصدرتها له في أبو غريب بعد التقاط صورته ومسح قزحية العين وبصمات الأصابع.
وأطلع المجلي “هيومن رايتس ووتش” على رسالة حصل عليها العام 2013 من المفوضية العراقية العليا لحقوق الإنسان، تؤكد احتجازه في سجن أبو غريب، بما فيه تاريخ اعتقاله وتضم رقم السجين نفسه الموجود في بطاقة هوية السجين الخاصة به.
وقال إنه احتفظ بها طوال هذا الوقت كدليل على ما عاناه.
وأثناء الاحتلال الأمريكي للعراق من 2003 إلى 2011، احتجزت السلطات آلاف الرجال، والنساء، والأطفال في سجن أبو غريب.
وورد في تقرير أصدرته “اللجنة الدولية للصليب الأحمر” في شباط 2004 موجه إلى التحالف العسكري بقيادة الولايات المتحدة، أن عناصر من المخابرات العسكرية أخبروا اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن نحو 70 إلى 90 بالمائة من المحتجزين لدى قوات التحالف في العراق في العام 2003 اعتُقلوا عن طريق الخطأ.
وقال المجلي إنه بعد 16 شهرا في أبو غريب، أطلِق سراحه دون تهمة. رغم نيل حريته، ووجد نفسه مريضا جسديا، ومفلسا، ومصدوما. وأثناء احتجازه، بدأ يعض يديه ومعصميه للتغلب على الصدمة التي كان يعاني منها والتي استمرت منذئذ. كانت الكدمات الناتئة الأرجوانية على يديه ومعصميه مرئية بوضوح.


سارة ياغر: بعد مرور 20 عاما، لا يزال العراقيون الذين تعرضوا للتعذيب على يد عناصر حكوميين أمريكيين بدون سبيل واضح لرفع دعوى أو الحصول على أي نوع من الإنصاف أو الاعتراف من الحكومة الأمريكية
وأضاف “أصبحتْ حالة نفسية. فعلت ذلك في السجن، وبعد أن غادرت السجن، وما زلت أفعل ذلك اليوم. أحاول أن أنسى الأمر، ولكن لا أستطيع. حتى اليوم، لا يمكنني ارتداء قميص بأكمام قصيرة. عندما يراها الناس، أقول لهم إنها حروق. أتجنب الأسئلة”.
بالإضافة إلى الآلام التي تعرض لها، يتألم المجلي من التأثير السلبي الذي خلّفه ذلك على أطفاله “غيرت هذه السنة والأربعة أشهر كياني كاملا إلى الأسوأ. دمرتني ودمرت عائلتي. سبّبت مشاكل صحية لابني وأدت إلى ترك بناتي الدراسة. سرقوا منا مستقبلنا”.
وعلى مدى عقدين، سعى طالب المجلي إلى الحصول على الإنصاف، بما فيه التعويض والاعتذار، عن الانتهاكات التي تعرض لها. بسبب عدم قدرته على تحمل تكاليف محام أو الوصول إلى السفارة الأمريكية في بغداد، سعى المجلي إلى الحصول على المساعدة من نقابة المحامين العراقيين، التي رفضت، قائلة إنها لا تتعامل مع مثل قضيته. ثم ذهب المجلي إلى المفوضية العراقية العليا لحقوق الإنسان، لكن كل ما استطاعت فعله هو إصدار رسالة تؤكد وجوده في سجلاتها كمعتقل سابق في أبو غريب. قال إنه لا يعرف كيفية الاتصال بالجيش الأمريكي وتقديم المطالبة.
وكتبت “هيومن رايتس ووتش” إلى وزارة الدفاع الأمريكية في السادس من حزيران 2023، توضح فيها قضية المجلي، وتقدم نتائج البحث، وتطلب معلومات عن تعويض ضحايا التعذيب في العراق. رغم طلبات المتابعة المتكررة، لم تتلق المنظمة الدولية أي رد.
وقال المجلي “لم أكن أعرف ماذا يمكنني أن أفعل أو إلى أين أذهب”. ولم تتمكن “هيومن رايتس ووتش” من العثور على أي مسار قانوني للمجلي لرفع دعوى للحصول على تعويض.
وقالت ياغر “على وزير الدفاع والنائب العام الأمريكيين التحقيق في مزاعم التعذيب وغيره من أشكال الانتهاكات بحق الأشخاص الذين اعتقلتهم الولايات المتحدة في الخارج أثناء عمليات مكافحة التمرد المرتبطة بـ ̕الحرب العالمية على الإرهاب̔ التي تشنها. وعلى السلطات الأمريكية بدء الملاحقات القضائية المناسبة ضد أي شخص متورط، مهما كانت رتبته أو منصبه. على الولايات المتحدة تقديم التعويضات والاعتراف والاعتذارات الرسمية إلى الناجين من الانتهاكات وعائلاتهم”.
ولم تجد “هيومن رايتس ووتش” أيّ دليل على أنّ الحكومة الأمريكيّة دفعت تعويضات أو قدمت أي سُبل انتصاف أخرى إلى السجناء ضحايا الانتهاكات في العراق، كما لم تقدم الولايات المتحدة أي اعتذارات أو أشكال جبر أخرى فرديّة.
ولم تردّ وزارة الدفاع الأمريكية على طلبات متكررة للحصول على معلومات حول ما إذا كانت الحكومة الأمريكيّة قد دفعت تعويضات بموجب قانون المطالبات الأجنبيّة أو أي تعويضات أخرى للضحايا أو أسر أولئك الذي ماتوا بسبب الانتهاكات أثناء الاحتجاز في العراق.
وقال جوناثان ترايسي، وهو محامٍ عسكري سابق نظر في دعاوى تتعلق بأضرار حصلت في بغداد في 2003، إنّه لا يعلم بأيّ أموال صرفها الجيش بموجب قانون المطالبات الأجنبيّة لضحايا التعذيب.
وأضاف “حتى إذا تلقى أيّ من الناجين أموالا، فإنّي أشكّ في أنّ الجيش كان راغبا في استخدام قانون المطالبات الأجنبيّة لأنّ ذلك سيُفهم على أنّه إقرار حكومي”.

طالب المجلي: التعذيب في سجن أبوغريب غير كياني إلى الأسوأ. دمرني ودمر عائلتي. سبّب مشاكل صحية لابني وأدى إلى ترك بناتي الدراسة. سرقوا منا مستقبلنا
وحاول عراقيون آخرون الحصول على العدالة في محاكم أمريكية، لكنّ وزارة العدل دأبت على رفض هذه المطالب باستخدام قانون يعود إلى سنة 1946 يوفّر حصانة للقوات الأمريكيّة “من أي مطالبات ناشئة عن أنشطة قتاليّة للقوات العسكريّة أو البحريّة أو خفر السواحل في وقت الحرب”.
حتى الآن، الدعاوى الوحيدة التي أحرزت تقدّما هي تلك التي تستهدف المتعاقدين العسكريين، رغم أنّها تواجه عقبات كبيرة أيضا. ومنها “قضيّة سهيل الشمّري وأسعد الزوبعي وصلاح العجيلي ضدّ شركة كاسي” (CACI) التي تشق طريقها ببطء في المحاكم منذ حزيران 2008.
وفتحت “إدارة التحقيقات الجنائيّة التابعة للجيش الأمريكي” ما لا يقلّ عن 506 تحقيقات في انتهاكات مزعومة من قبل القوات الأمريكيّة وقوات التحالف الأخرى في العراق بين 2003 و2005، وفقا لوثيقة صادرة عن وزارة الدفاع راجعتها “هيومن رايتس ووتش”. تضمّنت الوثيقة تفاصيل عن تحقيقات في 376 حالة اعتداء، و90 حالة وفاة، و34 حالة سرقة، وست حالات اعتداء جنسي يُزعم أنّ القوات الأمريكيّة وقوات التحالف ارتكبتها.
هذه التحقيقات الجنائيّة التي أجراها الجيش الأمريكي تعطي صورة واضحة عن حجم ونطاق الانتهاكات المزعومة داخل السجون الخاضعة للقوات الأمريكية في العراق.
وتضمّنت التحقيقات مزاعم تتعلق بـ 225 اعتداءً واعتداءً جنسيا في منشآت تحت السيطرة الأمريكية، شملت ما لا يقلّ عن 318 ضحيّة محتملة و426 جانيا مزعوما.
وعندما انتشرت صور الانتهاكات في أبوغريب، سعى الرئيس الأمريكي جورج بوش إلى التقليل من الطابع المنهجي للمشكلة ووصفها بـ “السلوك المشين لعدد قليل من الجنود الأمريكيين الذين أهانوا شرف بلادنا وتجاهلوا قيمنا”. لكنّ التحقيقات، ومنها تلك التي أجرتها “هيومن رايتس ووتش” وجدت أنّ قرارات متخذة على أعلى المستويات الحكوميّة مكّنت حصول هذه الأفعال أو وافقت عليها أو بررتها. كان أبو غريب مجرّد مركز من بين عدّة مراكز اعتقال عسكريّة أمريكيّة و”مواقع سوداء” تابعة لـ “وكالة المخابرات المركزيّة” في جميع أنحاء العالم مارس فيها العسكريون، وعملاء المخابرات، والمتعاقدون الأمريكيون التعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة، أو ما يُسمى “أساليب الاستجواب المعزّزة”.
لكن كل الإدارات الأمريكيّة، من جورج بوش إلى جو بايدن، تقاعست عن بذل جهود لتحقيق محاسبة حقيقية عن التعذيب في العراق.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى