واشنطن تخسر و”إسرائيل” لن تربح
لم أستطع منع نفسي من الابتسام وأنا أعد المرات التي استخدم فيها بنيامين نتنياهو مفردة “الأخلاق” و “الحرب الأخلاقية” و “أفضل جيش أخلاقي في العالم”، لكن الابتسامة يمكن أن تتحول إلى ضحكة مجلجلة، تصل حدة الشماتة، بعد أن وصف نتنياهو كلام الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون باللاأخلاقي، عندما طالب الأخير بإيقاف قتل المدنيين في غزة.
فماكرون كان بين كبار زعماء الغرب الذين توجهوا إلى تل أبيب بعد أيام من عملية “طوفان الأقصى” لمزيد من المساندة، لذلك يستحق التندر عليه، بينما يُعبر نتنياهو عن هزيمته السياسية وهو يكثر من استخدام مفردة الأخلاق في مواقف مشينة وعمليات قتل وحشية تطال الأطفال وحتى الخدج منهم.
فمع كل الذي يجري من عملية إبادة فإن “إسرائيل” لن تربح المعركة وفق المقولة التي تركها لنا المؤرخ الإغريقي ثوقيديدس صاحب كتاب تاريخ الحرب، ذلك ببساطة لأن العالم “ترك القوي يفعل ما يريده وترك الضعيف يعاني” وهنا علينا أن نبحث عن أي نوع من الحرب تجري في غزة، أو كما كتب آرييل بيرنشتاين أحد الجنود السابقين والذي صار يدعو اليوم إلى حل سياسي يوفر الأمل لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين “لقد احتللنا بيوتًا فارغة نزح عنها سكانها تاركين بقايا ملامح حياة في غزة وجدنا جثة عجوز بين الركام، وجدنا عائلة فلسطينية لم يكن أي منهم إرهابيًا، بدا صعبًا التصديق بأننا في ساحة معركة!”
فإذا كان لا يوجد مفهوم معركة في كل الذي يحدث اليوم في غزة وفق مفهوم عدالة المواجهة وأخلاقيتها، فمن بإمكانه أن يجعل من “إسرائيل” منتصرة في هذه الحرب، بينما تتوجه آلتها العسكرية الضخمة صوب قطاع يسكنه أكثر من مليوني مدني، ولا تجد بينهم من عناصر المقاومة الفلسطينية! “سبق وأن وصف كبار السياسيين الإسرائيليين حماس بأنها منظمة وهمية”.
لا ينتهي الأمر بتلاشي مفهوم النصر العسكري بالنسبة للجيش “الإسرائيلي” فهناك هزيمة سياسية وتاريخية شنيعة لن تكتفي ذرائع الكاتب “الإسرائيلي” آفي ايسسخاروف بأنها مرتبطة بالتوجه العام العالمي باتجاهات معادية للسامية بشكل صارخ، وهي ذريعة ناقصة لأنه يعترف أيضًا بأن هزيمة “إسرائيل” مرتبطة “بكيفية نجاح حكومات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في تصوير إسرائيل على أنها متنمر جامح وغير راغب في قبول أي صفقة دبلوماسية مع الفلسطينيين. أو بكلمات أخرى، رافض للسلام” ذلك ما يعبر عنه الرأي العام الدولي بعد خروج الملايين في شوارع لندن وباريس حتى سيدني ونيويورك، يهتفون بالحياة للفلسطينيين رافضين حرب الإبادة الشنيعة التي تشنها “إسرائيل” على غزة.
فبعد عقود من حديث النظم الغربية عن السياسة الخارجية القائمة على “القيم” و”التدخل الإنساني في شؤون الدول الأخرى” و”المسؤولية عن الحماية” و”النظام القائم على القوانين” وغير ذلك من الشعارات المثيرة للجدل، يشعر أنصار هذه الشعارات في الغرب بالمسؤولية الأخلاقية تجاه نفاق السياسات الخارجية لحكوماتهم، عندما تدافع عن المدنيين “هنا” وتتجاهل قتلهم “هناك” وعندما تقوم بشكل مخز بإيجاد الذرائع لنتنياهو في قتل الأطفال الخدج بغزة.
أو بتعبير الباحث مالدين مردالج في مقال نشرته مجلة “ناشونال إنتريست الأمريكية” “إن النفاق الليبرالي السائد بشأن القدرة على احترام حقوق الإنسان لكل من الإسرائيليين والفلسطينيين يميل ناحية إسرائيل. وقبل ذلك والأكثر أهمية هو أن المصالح المتعارضة تتجه ناحية مصلحة إسرائيل وإن كان بصعوبة، مثل استقطاب العرب بعيدًا عن روسيا والصين وتقليل الغضب العالمي المؤيد للفلسطينيين واحترام الترسانة النووية الإسرائيلية”.
هكذا شعر الغرب بـ “هزيمة إسرائيل” لذلك وجد السياسيون أنفسهم بموقف لا أخلاقي على الأقل بما كان يتذرعون به من أخلاق سياسية! هل يكفي هنا أن نشير إلى خطاب الحثالة الشائن الذي وصفت فيه وزيرة الداخلية البريطانية المقالة سويلا برافرمان الاحتجاجات البريطانية المطالبة بإيقاف حرب غزة بـ “مسيرات كراهية”! أو الذرائع المخزية مثل التي تفوه بها روبرت هابيك نائب المستشار الألماني واصفًا إبادة غزة بالدفاع عن “العالم المتحضر”!!
وهنا ترى إدارة الرئيس الأمريكي جو بادين نفسها موزعة بين خيارين كلاهما يؤول إلى الخسارة، الأول منح “إسرائيل” الدعم الاستراتيجي والمعنوي لسحق غزة، والثاني الحد من الاجتياح للقطاع قبل أن تنفجر المنطقة تحت ضغط الشعوب العربية والإسلامية وتندفع إلى مواجهة، تسقط على الأقل الأنظمة العربية المنصاعة للإرادة الأمريكية والمحافظة على مصالحها.
ذلك ما يمكن أن نفسره بـ “خسارة واشنطن” وهو ما حذر منه دبلوماسيون أمريكيون في الدول العربية.
وذكرت برقية دبلوماسية حصلت عليها شبكة “سي إن إن” الإخبارية الأمريكية، بإن تحذيرات شديدة من دبلوماسيين أمريكيين في العالم العربي من أن دعم واشنطن للحملة العسكرية الإسرائيلية المدمرة والمميتة على قطاع غزة “يخسرنا الشعوب العربية على مدى جيل كامل”، و “إننا نخسر بشدة في ساحة معركة الرسائل”.
لقد انكسرت الغطرسة الأمريكية من قبل في العراق ومن ثم في أفغانستان وبعدها في أوكرانيا، وهي اليوم أمام معركة لا تريد الدخول إليها.
رد وزير الخارجية الأمريكي انتوني بلينكن على وزراء خارجية عرب لم يخفوا قلقهم من استمرار حرب غزة مطالبين بالانتهاء منها سريعًا لأنهم لا يتحملون المزيد من ضغوط شعوبهم. رد باسترخاء خلف الأبواب المغلقة، وطالبهم بالصبر قائلا: ألم تكن حركة “حماس” مصدر قلقكم، والقضاء عليها أحد أهم أهدافكم؟ دعوا “إسرائيل” تقضي عليها وليكن الثمن حياة آلاف الفلسطينيين (….) ونسلمكم بعدها غزة لتبدون أنتم المنتصرين على الأقل بأموالكم التي ستغدقونها على ما سيتبقى من غزة!
إلا أن هذا الكلام، فضلا عن أنه مثيرًا للتهكم، يفتقر للشروط السياسية، وفقًا لآرون ديفيد ميلر المفاوض الأمريكي السابق في ملف الشرق الأوسط، إذا يقول “إذا نجحت إسرائيل في سحق حماس سيكون من الصعب للغاية تشكيل هيكل حكم هناك لديه مشروعية وفاعل، واحتمالات ماذا بعد ذلك بالنسبة لي خيالية”. أو بتعبير لينا الخطيب مديرة معهد الشرق الأوسط في جامعة “سوس” في لندن “حتى لو هُزمت حماس عسكريًا، فلا يمكن تحييد أهميتها السياسية. القول بأن وجود حماس أو شرعيتها مرتبط بنجاحها العسكري هو أمر زائف”.