ميليشيات المحور الإيراني وثوب الزور
ليس شيء أقذر ولا أقبح عند الله وعند الناس من الكذب والزور والبهتان، وكم من مدع لفضيلة وأفعاله تفضحه، وكم من شاهر سيفه يقاتل بين الصفوف رافعا راية جهاد ولا يريد بذلك وجه الله، وإن كان بعضهم ماتوا على سوء طويتهم هذه ولا يعلم بهم إلا علام الغيوب، الذي سيفضحهم على رؤوس الأشهاد، فإن كثيرًا من أولئك فضحهم الله في الدنيا وأخزاهم بين خلقه وجعلهم للناس آية.
ولعظم خصلة الزور والرياء وقبحها، فإن أول من تسعر بهم جهنم ثلاثة من المرائين المدعين المتظاهرين بالفضائل، ومنهم رجل استشهد جاء ذكره في حديث الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: (فأُتيَ به فعرَّفه نعمَه فعرفها، قال فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت، قال كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال هو جريء، وقد قيل، ثم أمر به فسُحبَ على وجهه حتى ألقي في النار).
وقد جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليُرَى مكانُه، فمن في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله.
ذلك لأن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، وما كان خالصًا وصوابًا، وأما المراؤون الذين يعملون لغايات خاصة ومصالح دنيوية في مال أو رياسة أو جاه، فحالهم كحال مهاجر أم قيس حين تحمل مشاق الهجرة إلى المدينة من أجل الزواج من أم قيس، وحرم من أجر الهجرة العظيم.
(ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
ولميليشيات المحور الإيراني تاريخ كله سخام في التزوير والكذب والبهتان، فهم الخائنون ويدعون الوطنية؛ قاتلوا مع إيران في حربها مع العراق ثمانينات القرن الماضي وحملوا سلاحهم في صفوف الحرس الثوري ضد الجيش العراقي وصورهم ومواقفهم معلنة ومعروفة لا ينكرونها بل يتفاخرون بها، واليوم يرفعون شعار الوطنية ويسمون أحزابهم بها، من غير خجل أو حياء، بل ويقودون الحكومة والنظام الذي يسمونه وطنيًا.
ومن زيفهم أنهم الذين جلبهم الغزاة وقاتلوا معه ضد المقاومة العراقية في محافظات بغداد والأنبار وديالى وصلاح الدين والتأميم ونينوى، يوم كانت عملياتها البطولية تقض مضاجع الاحتلال، وطاردوا أبطالها وأجهزوا عليهم بين قتيل أو سجين يعاني الذل والهوان في سجونهم الوحشية، ويصفونهم بالإرهابيين حتى اليوم، ومع كل هذه الخيانة والعمالة للاحتلال ها هم اليوم يسمون أنفسهم (فصائل المقاومة) ثم (المقاومة الإسلامية العراقية) وتروج لزيفهم هذا بعض القنوات الفضائية العربية، وكيف لمن بدأ جنديًا في صفوف الاحتلال، تدريبًا وتسليحًا ومقاتلًا تحت إمرته أن يدعي اليوم مقاومته؟! ولأن التأريخ قريب والشهود أحياء، “والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء”، لجؤوا إلى سرقة عمليات المقاومة التي يعرفها العراقيون والعرب وتعرفها قوات الاحتلال نفسها، وأزالوا شعار فصائلها الحقيقية ووضعوا شعارهم الباطل والمزيف عليها، ولكن أسماء فصائل المقاومة الحقة محفورة في ذاكرة العراقيين، مثل كتائب ثورة العشرين وجيش المجاهدين وجيش الراشدين والجيش الإسلامي، وغيرها ممن أثخن في المحتل وأذاقه مر العلقم.
ولما كان للقدس والأقصى في نفوس المسلمين وعقيدتهم مكانة سامية ومنزلة عالية، لم تشأ إيران الخميني أن تغفل عنها، لتجعل من فلسطين جواز مرور لها بين الشعوب المسلمة، فأطلق الخميني ما يسمى (يوم القدس العالمي) في الجمعة الأخيرة من رمضان، لترفع فيه شعارات الموت لأمريكا والموت لإسرائيل، وسار خامنئي على نهج سلفه في ذلك، وأسس ما يسمى (فيلق القدس)، وهو تشكيل خاص بعمليات إيران خارج حدودها لتحقيق أهدافها في التوسع أو ما يعرف بتصدير الثورة، وليس لاسم القدس علاقة بأهدافه الحقيقية، وإنما هو غطاء لتمرير أجنداته بين شعوب المنطقة وبقية أقطار العالم الإسلامي.
وجرائم قوة القدس وقائدها المقبور سليماني أكثر من أن تحصى في مدن العراق وسوريا وغيرهما، ومن لم يسمع بها فهو إما في عداد موتى القبور، أو أنه أعمى وأصم، وقد وصل تسلط هذا السليماني وتدخله في شؤون البلدان أنه كان يقود غرفة عمليات ميليشيات الحشد لتصفية المتظاهرين في ثورة تشرين في العراق عام 2019 م، وقتلوا فيها ما يقرب من ألف متظاهر وأصابوا ثلاثين ألفًا منهم.
واجهت ميليشيات المحور الإيراني في بلدان المنطقة أحرج أيامها منذ انطلاق طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر قبل ما يقرب من أربعة أشهر، وأصبحت أمام امتحان عسير، فالحرب مع أمريكا والكيان ليست نزهة أو لعبة، ولا يخوضها إلا شعب مؤمن حق الإيمان ببذل الغالي والنفيس من أجل تحرير وطنه، والدفاع عن مقدساته، وليست كحربهم ضد المدنيين العزل التي خاضوها في العراق وسورية، فتسلطوا على الآمنين في بيوتهم وأبادوهم بتهمة الإرهاب، ولاحقوا الفارين من القصف فاعتقلوهم وقتلوهم أو دفنوهم أحياءًا، وكانوا يأملون أن تنتهي الحرب على غزة في أيام أو أسابيع، يمررون فيها بعض ألاعيبهم على السذج والأغبياء، ولم تفلح مكانة حسن نصر الله وخطاباته وترسانته من الصواريخ في حل معضلتهم، ولا تصعيد الحوثيين في مضيق باب المندب، حتى جاء الهجوم على القاعدة الأمريكية شمال الأردن وقتل فيه الجنود الأمريكيون الثلاثة، فيما سمته أمريكا (خرق قواعد الاشتباك)، فدخلوا في مأزق جديد زاد الإرباك إرباكًا، فكان ما حصل بعده خلاف المنتظر والمأمول من جبهة تدعي المقاومة، فتفاجأ العالم ببيان من الجهة المنفذة أشبه ببيانات مقتدى في تجميد جيش المهدي سابقًا.
ولأول مرة نسمع بمصطلح (تعليق المقاومة)، فعلت ذلك ميليشيا حزب الله في العراق المتهمة بأنها وراء الهجوم، لامتصاص غضب السيد الأمريكي، وشمل التعليق حتى المنصات الرقمية لهذه الميليشيات، واختفى قادة المقاومة الذين طالما أرعدوا وأزبدوا، وأصبحت مواجهة الشيطان الأكبر في عرفهم الجديد، تعني التفريط بالمصالح والمكتسبات، وهم الذين طالما تحدثوا عن وحدة الساحات ومساندة القسام في صد العدوان الهمجي المستمر، وفضح الله زيف دعاواهم الباطلة، وتلك سنة الله في الأدعياء كما قال سبحانه: (ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين).
وخلاصة الكلام في هؤلاء الشراذم والطغام، أن تحرير فلسطين والأقصى لا يكون على يد من يقتلون أمة محمد صلى الله عليه وسلم، بل على يد (طائفة من أمتي) كما قال الذي لا ينطق عن الهوى، وأن ميليشيات المحور الإيراني لا علاقة لها بالأقصى أو فلسطين، وأن سلاحها وقوتها في خدمة المشروع الإيراني التوسعي فحسب، وأنه لا يغتر بشعاراتها وألاعيبها إلا قليل النظر في سنن التأريخ، ومصائر الظالمين والمنافقين.
إن انتصار ميليشيات المحور الإيراني لفلسطين وهم كبير، وإن تسويق هذا الوهم على أبناء الأمة أمر خطير حاضرًا ومستقبلًا، وإن الذين ما زالوا يظنون بهذا المحور خيرًا للأمة وفلسطين، رؤيتهم منكسة، فحذار أن تكون رايتهم كذلك، ولينظر من يحسن الظن بهم إلى أفعالهم في العراق وسوريا واليمن كيف فعلوا بأهلها وبحواضرهم، وكيف مسحوا مدنًا كاملة من على وجه الأرض، وليقارنوا أفعالهم هذه بمفرقعاتهم منذ السابع من أكتوبر وحتى اليوم، ولعلهم سمعوا بدعوة خامنئي للصبر الاستراتيجي، قبل بيان (تعليق المقاومة)، كل ذلك للتخلص من المواجهة مع أمريكا، ولا أدري ما معنى المقاومة إن لم تكن تعني المواجهة؟!
ويبدو أن التعليق والتجميد سيسري على جميع الميليشيات في العراق، بعد دعوة مقتدى الصدر أتباعه أن يأووا إلى الكهف ويتفرغوا للعبادة حتى عيد الفطر، فعسى أن يبسط ذراعيه في باب الكهف ليضمن بقاءهم فيه، وعسى أن يجدوا لذة العبادة فيمددوا اعتكافهم حتى تصيح الساعة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.