“إسرائيل” تخسر السردية الإعلامية الدولية
يجلس عجوزان تونسيان أمام شاشة التلفزيون أكثر من أي فعل آخر يقومان به في منزلهما. فهما لم يتخلصا من القلق على أهل غزة ولا يملكان غير الدعاء لأهل فلسطين والاستمرار مشاهدة الأخبار والصلاة.
العجوزان التونسيان لا يقرآن ولا يكتبان، لكن ذلك لا يبدد شغفهما بالأخبار، وتلك عينة مفيدة لمعرفة تأثير الأخبار على الجمهور. فمع أن الخبر لا يخضع للتحليل لدى تلك العينة من الناس، إلا أنه يساعدنا على فهم تأثيره اليوم، ومن ثم يفتح أمامنا طريقًا لفهم قوة الخبر ومتى يصبح الجمهور خائفًا من الأخبار، وهاربًا منها.
لو تسنى للعجوزين التونسيين عدم مشاهدة أخبار حرب الإبادة على المدنيين في غزة، لفعلا ذلك، فمثل هذه الأخبار تكسر قلبيهما، إن لم تجعلهما يذرفا الدموع، لكنهما لا يفعلان بينما لا يمتلكان غير الدعاء والصلاة لأهل غزة. وذلك أحد أهم المؤشرات عند خبراء الإعلام عن الهروب من الأخبار، مقابل قوة تأثيرها على الجذب.
هناك من يهرب من أخبار الجريمة والعنف، وهو أحد أهم المؤشرات لدى مراقبي وسائل الإعلام عند تغطية التوجه العام للجمهور. في سؤالهم الشهير “ما هو أكثر ما تخاف منه في نشرة الأخبار”.
قد تبدو الإجابات واضحة لدى فئات شاسعة من الجمهور، وهو سبب يجعل الحكومات ووسائل الإعلام غير المستقلة تبذل كل ما بوسعها للسيطرة على السردية الإخبارية، كما تفعل حكومة نتنياهو اليوم، فهي لم تكتف بقتل المراسلين الصحفيين في غزة لمنع حرية تبادل المعلومات والسيطرة على الحقيقية لمنع انتشارها، بل تريد أن تستحوذ على السردية الإخبارية برمتها، وجعل العالم تحت سطوة طرف أخباري احادي.
فبعد منع الصحفيين الأجانب من دخول قطاع غزة أُرغم عدد كبير من المراسلين على المغادرة.
لكن أي قوة بإمكانها إرغام “المواطن الصحفي” على مغادرة موقع الحدث؟ ذلك ما يصعب على نتنياهو الإجابة عليه.
أو بتعبير كبير محللي صحيفة “يديعوت أحرونوت” ناحوم بارنياع، بأن “الضرر هائل على إسرائيل عندما تخوض حربها من واجهة متجر أمام عالم مشبوه، معاد ومكشوف كما لم يحدث من قبل، عند ممارسة الجنود الهدم غير المبرر في غزة”.
فكبير محللي صحيفة “يديعوت أحرونوت” يعترف في هذا الكلام بأن الجرائم التي يرتكبها الجنود الاسرائيليون بهدم المتاجر والبيوت والمساجد والكنائس في غزة، مكشوفة أمام العالم وهي بمثابة متجر مفتوح أمام العيون، وليس بإمكان نتنياهو إغلاق تلك الواجهة الإخبارية.
في حرب الأفكار يشكل الضجر والتشويش سلاحين قويين في الصناعة الإخبارية، إلا أن الحقائق ببساطة صارخة في جرائم الإبادة في غزة إلى الحد الذي يجعل من الصعب على أي أحد مواجهتها. فكمْ من الأطفال سيموتون قبل أن ينتهي هذا الكابوس في قطاع غزة؟ وفق تساؤل كاثرين راسل المديرة التنفيذية لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسف”؟
لذلك خسرت إسرائيل السردية الإعلامية الدولية في غزة وستخسر أمنها الإقليمي، كما لم تستطع الحفاظ على أمنها الداخلي وضمان الثقة في مستقبلها. تلك الخسارات الثلاث مستمرة مع استمرار الحرب في غزة.
لا يمكن لأكبر قوة إعلامية وسياسية في العالم منع انجذاب الجمهور للحقائق في غزة، عندما تروج تلك القوى لما بعد الحقيقة في خطابها السياسي والإعلامي، أو وفق تعبير آن نيلسون مؤلفة كتاب “شبكة الظل: وسائل الإعلام والمال والسياسة” “الحقيقة الإخبارية هي بمثابة رسالة تجذب الجمهور”.
لم تتوقف كبرى المحطات الأمريكية والبريطانية عن استخدام منصاتها لدفع تحيزاتها وأجنداتها للسيطرة على ما يفكر فيه الناس بشأن حرب الإبادة في غزة.
فعندما يفتقد الجمهور الحماسة لأخبار مؤسسة إعلامية كبرى كهيئة الإذاعة البريطانية “بي بي سي” وشبكة “سي أن أن” الأمريكية، لأنهما لا تقدم له الحقيقة كما هي في غزة، فهذا يعني أن صناعة الأخبار في أزمة داخل أزمة الصحافة التي ترقد في السوق المريضة أصلا.
لقد تجسد ذلك فيما فعلته نادين دوريس مذيعة قناة (TalkTV) البريطانية عندما طالبت ضيفها النائب البرلماني السابق كريس وليامسون أن يعلن اعترافه بتصنيف “حماس” كمنظمة إرهابية كشرط لاستمرار الحوار معه!
لم تحدث مثل تلك الإهانة للمعايير الإخبارية مثلما فعلت مذيعة تلك القناة، وهي تتعمد كسر الدرس الصحافي الأول “الصحافي لا يقول فعلت، بل بكل تواضع يقول سمعت وشاهدت”.
ويمكن لأي من قراء هذا المقال أن يجدوا أمثلة من محطات تلفزيونية عربية، كمعادل للسلوك الصحفي الشائن لمذيعة القناة البريطانية، وهي لا تداري خجلها في تقديم مدونة نتنياهو باعتبارها الحقيقة المطلقة في حرب غزة!
كذلك كسرت الحرب في غزة المعايير الإخبارية لدى كبرى المحطات التلفزيونية الغربية، عندما أعلنت من دون مواربة انحيازها لإسرائيل وهي تدوس جوهر المهنة التاريخي.
هناك صراخ إخباري سخيف لوسائل اعلام غربية هو أشبه بإدارة “مكتب إنذار الإرهاب” فقط لإثارة المخاوف بأن الاعتراف بالحق التاريخي الفلسطيني هو محاولة لمعاداة السامية!
وإذا كانت تُهم مثل إنتاج الجهل واختراق العقول والتأثير على صناعة الرأي عند الجمهور، قد أصبحت من فلكلور الصحافة في العصر الرقمي، فأن مجرد القبول بذلك الصراخ كما فعلت المذيعة نادين دوريس بموقفها المفضوح، بينما كان ينبغي عليها أن تنظر إلى نفسها في المرآة والبحث عن وظيفة أخرى لا تمت بصلة إلى الأعلام.