عدنان حمد في “ملاعب محتلة” أخلاقي بجبين عال
لا يكتفي المدرب العراقي عدنان حمد بكونه ملهمًا في فهم كرة القدم، بل يصر على أن يكون أخلاقيًا عندما يتعلق الأمر بالتوصيف الوطني، كان يصر على ذلك أمام العالم الذي بدأ يتأمل بتمعن هذا العراقي المتسق مع ما يؤمن به في بلد كان تستبيح أرضه الدبابات الأمريكية.
ومن يعود إلى تصريحاته الباهرة أثناء مباريات المنتخب العراقي في أولمبياد أثنيا عام 2004، يدرك المعدن الوطني لعدنان المدرب وعدنان الإنسان المعبر عن نفسه بثقة وعن عراقه الحقيقي، فيما كانت صورة العراق المزيف سائدة في نشرات الأخبار.
كان يقول فيما البلاد تسقط في لجة الموت آنذاك، أنه مع فريقه يلعب باسم العراق وحده وليس باسم أي من الذين يتبجحون اليوم باسم ديمقراطية الموت في المنطقة الخضراء أو واشنطن.
سنكتشف كل ذلك في كتابه “ملاعب محتلة” الصادر عن دار الذاكرة للنشر والتوزيع في بغداد.
هذا الكتاب الذي أضفى عليه تحرير الدكتور هادي عبد الله لمسة قصصية مغرقة بالشغف، بمثابة وثيقة سياسية وتاريخية في غاية الأهمية عن الأشهر الأول من احتلال العراق عام 2003 وكيف كانت المقاومة العراقية تسفح دم جنود الاحتلال في شوارع بغداد حتى الفلوجة، ثم مشاركة المنتخب العراقي بكرة القدم في أولمبياد أثينا عام 2004، وكيف صنع عدنان حمد أكبر أنجاز كروي في تاريخ العراق والعرب في تلك البطولة العالمية بالحصول على المركز الرابع مع فريق قادم من بلاد أريد لها أن تغادر التاريخ تحت الاحتلال.
لا يكتفي متن الكتاب الممتد على 238 صفحة بقصة محضة عن كرة القدم وفلسفة التدريب عند عدنان حمد، بل يسرد رواية وطنية لمدرب رفض أن يكون هامشًا لسلطة الاحتلال عندما أصرّ على عراقيته وتاريخه الشخصي.
من يعود إلى الخطبة العاطفية التي ألقاها عدنان حمد على لاعبي المنتخب في أول تدريب لهم بعد أسابيع من احتلال العراق في ملعب محاط بمبان محترقة ومنهوبة، فيما دبابات القوات المحتلة تحيط بالملعب، يفهم عن كثب الموقف الأخلاقي لمدرب ملهم.
خاطب عدنان لاعبيه الذين كان ينتظرهم موعد مع صناعة التاريخ في أولمبياد أثينا بالقول “إننا اليوم وبعد كل الذي حدث لبلدنا وشعبنا من أذى ودمار وفوضى وانهيار للقيم والأخلاق، أمامنا مسؤولية إعادة الثقة والأمل… علينا أن نبعث رسائل مهمة في هذا الوقت.. أولا إلى أهلنا وشعبنا بأننا سننهض من تحت ركام الحرب والدمار، ونبدأ ببناء بلدنا، وفي الوقت نفسه للآخرين في الخارج بأن شعب العراق شعب لن ينكسر وها نحن ننهض من جديد…. لا مكان للتفرقة ولا مكان لمن يريد استغلال الأحداث لتغيير قيمنا وأخلاقنا، كما لا يوجد شيء صالح في بلدنا، كل المؤسسات دُمرت وانهارت، لا اتحاد كرة قدم ولا لجنة أولمبية ولا وزارة شباب، نحن الآن من يمثل العراق في هذه المرحلة وهذه مهمة سامية سيسجلها التاريخ”.
تكررت مثل هذه الخطبة العاطفية المعبرة أثناء الأولمبياد عندما أراد المحتل وهوامشه من السياسيين الصغار سرقة هذا الإنجاز فعاد عدنان حمد ليعيد الكلام على لاعبيه قبل المباراة الأولى مع منتخب البرتغال التي حقق فيها الفريق العراقي فوزا تاريخيًا. قائلا “هذا يوم مهم جدا لنا ولبلدنا وشعبنا… سوف يشاهد العالم كيف لبلد يئن تحت وطأة احتلال مجرم دمر كل شيء وقتل مئات الآلاف من شعبه وخرب كل منشآته ولم تسلم من جرائمه حتى ملاعب كرة القدم… نعم كل العالم يتطلع إلى متابعة أبناء الشعب العصي على الأعداء كيف سيظهر في محفل عالمي مهم وكبير ممثلا لقارة كبيرة هي آسيا من بين 46 دولة”.
في ذلك الأولمبياد استقطب عدنان حمد الأضواء بأخلاقه الوطنية فيما كانت نتائج فريقه مثيرة بالنسبة لمحبي كرة القدم وورقة لا يمكن أن يفرط بها السياسيون سواء من هوامش الاحتلال أو من الأمريكيين أنفسهم، لدرجة أن الرئيس الأمريكي جورج بوش قال إنه سيحضر لمشاهدة المباراة عند صعود المنتخب العراقي لنهائي البطولة.
كان بوش يتحدث بصلافة لا تقل عن المزاعم الكاذبة التي ساقها لاحتلال العراق، وكأنه يتحدث عن الفريق الأمريكي وليس العراقي!
إلا أن عدنان حمد كان آنذاك مصدر الكلام الأكثر طلبًا في وسائل الإعلام الدولية، فتحيط به العدسات من كل صوب، كان الجميع ينتظره بلهفة الحديث عن الحدث المفاجأة، وعن كيفية الظهور بهذا الأداء الباهر للمنتخب العراقي تحت وطأة ظروف الاحتلال العصيبة.
يكتب عدنان “لقدر أراد المجرم بوش تسويق الاحتلال الأمريكي بالأكاذيب عندما تحدث عن الحرية التي أوصلت المنتخب العراقي إلى الأولمبياد، إذ كانت في حينها الانتخابات الأمريكية على الأبواب، لذلك كان لا بد من إجابات حاسمة وواضحة لا تقبل التأويل والاجتهاد، فتشفي غليلي وما في قلبي وذهني… فقلت: إن هذا الفريق عراقي خالص وليس لأحد فضل عليه، بدأنا إعداده منذ سنوات، وعانينا كثيرا بسبب الصعوبات والمخاطر التي سببها الاحتلال وكل منا فقد الكثير من الأقرباء والأصدقاء بسبب همجية قوات الاحتلال التي ارتكبت الجرائم وقتلت الآلاف من الأبرياء. وفي الوقت الذي نحن في هذه القاعة يتعرض أهلنا وشعبنا في مدينة النجف، وكذلك في الفلوجة إلى الموت والدمار من قوات الاحتلال. اليوم نقدم هدية ثمينة لشعبنا لعلها تكون بلسمًا لجراح أهلنا في العراق، وبارقة أمل لمستقبل أفضل والخلاص من الاحتلال وإجرامه”.
قد تكون تلك الكلمات العاطفية العميقة تعبر عن متن هذا الكتاب الذي أراد له عدنان حمد أن يكون شاهدًا صادقًا على زمن شاذ في تاريخ العراق تحت وطأة الاحتلال الأمريكي، إلا أنه في الوقت نفسه يكشف المعدن الناصع لمدرب وإنسان تسامى فوق كل التقسيمات ليقول حسبي أنا عراقي، وفريقي لا يمثل غير العراق ولا يلعب إلا باسمه.
كتاب “ملاعب محتلة” يختصر سيرة سنتين من عمر المنتخب العراقي أثناء صعوده إلى أولمبياد أثينا، بينما كان الاحتلال الأمريكي يحطم البلاد، إلا أنه أيضا يمثل أروع الشهادات التاريخية التي جسدها مدرب المنتخب عدنان حمد عندما أراد الحاكم المدني الأمريكي بول بريمر زيارة معسكر المنتخب العراقي في بغداد، في محاولة فارغة المضمون لتجميل الاحتلال.
عندما علم عدنان بذلك أسرع على إبلاغ جميع اللاعبين بأن يكون التعامل مع بريمر بشكل رسمي وألا نظهر له أي مجاملات لفظية أو إشارات ودية…
وعندما أراد الحاكم الأمريكي أن يجامل عدنان حمد وهو يسأله عن المباراة المقبلة، رد عليه حمد بأنها ستكون مع المنتخب السعودي، فقال بريمر: المنتخب السعودي فريق قوي، فرد عليه حمد بعراقية عالية الجبين بأننا كذلك أقوياء وفي كل وقت…
كان عدنان في هذا الخطاب العميق والمعبر وبلغة لا تفتقر أيضا للكياسة الشخصية، يبعث برسالة إلى بريمر وإلى عدسات وسائل الاعلام المحيطة به، مفادها لا يقبل التفسير بغير حقيقتها الرافضة له وللاحتلال.
وهي أوضح -وفق عدنان- من أن تخفى على رجل مخادع مثل بريمر، ويكتب “لم تحضرني غير تلك الإجابة في تلك اللحظات الثقيلة التي كانت كالجبال الجاثمة على صدري، لذا لم يكن من مسوغ لأية مجاملة مع ممثل قتلة الأبرياء”.
عندما أدرك بريمر فتور اللقاء فضل وبحركة مراوغة أن يختتمه بصورة جماعية مع الفريق، لكن المدرب عدنان حمد فضل أن يأخذ المكان اللائق به ليكون بعيدا عنه حتى في الصورة.
يبدو لي أن تلك القصة التي رواها عدنان حمد في كتابه “ملاعب محتلة” تختصر متن هذا الكتاب الوثيقة وهو يلبي حاجة الذاكرة الجمعية العراقية والدولية عندما يراد لها أن تنسى ما حصل في احتلال العراق. لذلك تبدو الحاجة ماسة وعاجلة لتقديم نسخة انجليزية من الكتاب للقارئ العالمي، كي لا تبقى الأكاذيب المدونة الوحيدة عن جريمة ارتكبت في العراق ويراد للتاريخ أن يضعها في هوامشه.