مغالطات حول كميات المياه الجوفية في العراق
تعاني المنطقة العربية بشكل عام من مشكلة شحة المياه، وهذه المشكلة تتعاظم سنويا بسبب الزيادة السكانية والتغير المناخي كون معظم دولها تقع ضمن المناطق الصحراوية وشبه الصحراوية ومنها العراق. وبالرغم من ان العراق تاريخيا يعتبر السهل الرسوبي لنهري دجلة والفرات وتميز لعشرات الالاف من السنين بوفرة المياه، الا ان هذا الوضع تغير في العقود الثلاثة الاخيرة نتيجة حجب مياه منابع النهرين وشط العرب بحوالي مائة سد ومحطات توليد طاقة كهرومائية في كل من تركيا وإيران. وبذلك تقلص معدل الوارد المائي السنوي مما يقرب من 80-100مليار متر مكعب سنويا إلى أقل من 40 مليار متر مكعب سنويا، علما ان هذا التناقص سيستمر مع استكمال مشروع جنوب شرق الاناضول في تركيا خلال العقدين القادمين.
وبوجود الوفرة المائية سابقا، لم يتم الاعتماد على استخدامات المياه الجوفية في العراق الا في المناطق الصحراوية غرب وجنوب غرب العراق. وخلال العقود الخمسة الاخيرة ومع بدء التخطيط لمشاريع جنوب شرق الاناضول التركية وازمة المياه التي حدثت في العراق خلال السبعينات نتيجة قطع مياه نهر الفرات لملأ سدي كيبان في تركيا والطبقة في سوريا بدأ العراق باجراءات تقييم جدي لمكامن المياه الجوفية والخزين المائي المتوفر فيها. كما تم أعداد الدراسات حول اساليب استخدامها وتنميتها بما لا يضع على هذه الموارد ضغوط في الاستخراج المائي المفرط نتيجة الضخ الجائر الذي قد يؤدي لجفافها وتغير المواصفات الجيوهيدرولوجية للطبقات المضيفة ومن هذه التغييرات السلبية انضغاط المسامات التي بدونها تنتهي قابلية خزن الطبقات للمياه الجوفية. ولكن عدم وجود الوعي العام بين المواطنين باهمية المياه الجوفية وطبيعتها وانواعها في العراق وكذلك لعدم وجود قوانين صارمة تحدد استخداماتها كما في دول العالم المتقدم، ساهم البعض ومن خلال وسائل التواصل الاجتماعي ببث معلومات ومغالطات حول كميات لمياه الجوفية الهائلة في العراق. ونتيجة انخفاض الوارد المائي لنهري دجلة والفرات للاسباب المذكورة سابقا ومع تفاقم شحة المياه نتيجة موجة الجفاف في المنطقة، اتجه المواطنون في السنوات الاخيرة وفي الكثير من المناطق لحفر الابار بدون اي معرفة لطبيعة ونوع المكامن التي يسخرجون المياه الجوفية منها وبدون تراخيص من الجهة المسؤولة عن الموارد المائية. وتأتي هذه المقالة لتوضيح بعض المعلومات عن واقع المياه الجوفية في العراق وملابسات التعامل معها وأثارها المستقبلة على الامن المائي في العراق.
تتواجد مكامن المياه الجوفية في العراق بشكل اساسي وفقا لطبيعة التضاريس وجيولوجيا وهيدرولوجيا المناطق. وهنالك العديد من التصنيفات للاقاليم المحلية التي تتواجد فيها هذه المكامن، لكن بشكل عام يتم تقسيم هذه الاقاليم إلى سبعة اقاليم رئيسية وهي: مكامن المياه الجوفية لمناطق الطيات العالية لحزام طوروس- وزاكروز اقصى الشمال الشرقي للعراق، ومكامن المياه الجوفية لمناطق الطيات الواطئة أو أقدام التلول، ومكامن مناطق مندلي وبدرة شرق العراق، ومكامن منطقة الجزيرة، شمال غرب العراق، ومكامن السهل الرسوبي أو ما بين النهرين. ومكامن الصحراء الغربية والتي تشمل مناطق الانبار ومكامن البادية الجنوبية غرب المثنى والناصرية والبصرة.
وسيتم التركيز في هذه المقالة على المياه الجوفية في الصحراء الغربية:
يوجد في مناطق الصحراء الغربية والبادية الجنوبية بحدود عشرة مكامن اساسية للمياه الجوفية مختلفة الاعماق، والنوعية “ارتوازية في طبقات محصورة بين طبقتين غير نفاذة أو غير ارتوازية قريبة من سطح الارض وشبه ارتوازية في مناطق أخرى”.
يعتمد كمية الخزين في هذه المكامن على نوع طبقات الصخور المضيفة لهذه المكامن من ناحية خصائصها الجيوهيدرولوجية مثل نوع المسامية Porosity)) أولية أو ثانوية أو الاثنين معا، ومعامل النفاذية (Permeability (، ومعامل الانتقالية Transmissivity))، وكذلك على سمك الطبقات المضيفة وتركيبتها المعدنية “رملية، كلسية، ملحية وجبسية وغيرها” لأنها تحدد نوع المياه الجوفية وصلاحيتها للاستخدامات المختلفة مثل الشرب أو الاستخدام المنزلي والزراعي والصناعي وغير ذلك. وتوجد علاقة وثيقة وتبادل مياه بين المياه السطحية كالأنهار والبحيرات والجداول والأهوار ومكامن المياه الجوفية، اذ تقوم مصادر المياه السطحية بتغذية المياه الجوفية في مواسم الفيضانات ما يؤدي إلى ارتفاع مناسيب المياه الجوفية ايضا، وعلى العكس من ذلك تقوم المياه الجوفية بتصريف بعض مياهها للانهار والبحيرات التي انخفضت مناسيب المياه فيها في مواسم الجفاف.
وبشكل عام فان أهم مصادر تغذية مكامن المياه الجوفية هو السقيط المطري المباشر أو السيول المتجمعة في الوديان المحلية أو الاقليمية من خارج الحدود، وكذلك من ضفاف الانهار في مواسم الموجات الفيضانية مثل نهري دجلة والفرات والبحيرات المرتبطة بهما. وفي حال استمرار مصادر التغذية برفد مكامن المياه الجوفية عن طريق الترشح المباشر والتكسرات والفواصل والتكهفات في الطبقات الصخرية السطحية، تعد هذه المكامن “متجددة”، أي من الممكن تعويض المياه التي تسحب منها عن طريق الابار والعيون أو التسرب منها للأنهار القريبة ايام انخفاض مناسيبها في الصيف والخريف. أما إذا كانت مكامن المياه الجوفية معزولة في الطبقات العميقة ولا يوجد تغذية مستمرة لها، فتسمى مكامن مياه جوفية “غير متجددة”، والمياه التي تجمعت فيها قد يتراوح عمرها مئات أو الاف أو حتى ملايين السنين.
وفي العراق هنالك خمس مكامن كبيرة في الصحراء الغربية والبادية الجنوبية مشتركة مع الدول المجاورة “سوريا، الاردن، السعودية، والكويت”، وأن أهم وأكبر ثلاثة مكامن من هذه الخمسة مياهها غير متجددة “مكامن أم رضمة والدمام والدبدبة” ولا تترشح مياه سطحية لتغذيتها حاليا أو أن كميتها قليلة جدا نسبة لمساحتها وحجمها، وتعتبر مثل المكامن النفطية ثروة مياه ناضبة. وأما المكامن المشتركة الاخرى في الصحراء الغربية والبادية الجنوبية فمياهها متجددة، أي أن فيها مناطق تغذية Recharge areas)) من الأمطار ومياه الأنهار والوديان وهي “مكامن أنجانا، وكعرة” وأن معظم مناطق تغذيتها تأتي من امتداداتها خارج العراق.
وبالنسبة لبقية المكامن في الصحراء الغربية والبادية الجنوبية فهي محلية ومناطق تغذيتها من الأمطار التي تسقط داخل العراق والسيول المتجمعة في وديان الصحراء ومن ضفاف وفيضانات نهر الفرات ومناطق تصريفها لبحيرات الحبانية وساوة والرزازة والينابيع الصحراوية وغرب أسفل نهر الفرات داخل العراق ايضا. ولابد من التأكيد هنا ونتيجة الترابط الوثيق بين المياه السطحية والجوفية في الحوض الواحد فإن تناقص كميات المياه السطحية كالذي حصل لنهري دجلة والفرات سينعكس بشكل مباشر على كميات الخزين في مكامن المياه الجوفية المتجددة في العراق وبنفس النسبة. أي أن انخفاض الواردات المائية في الاراضي العراقية لنهري دجلة والفرات إلى الثلث سيؤدي إلى نقصان تغذية مكامن المياه الجوفية المتجددة والمرتبطة بحوضي النهرين ايضا إلى ثلث كمياتها قبل انشاء السدود في دول المنابع. ولذلك على مراكز بحاث المياه الجوفية في العراق القيام بإعداد الدراسات الخاصة بتقدير وقياس مستويات المياه الجوفية في المكامن اعلان لتفادي حالات الاستنزاف ومنع الضخ والاستخراخ منها قبل الوصول للمستويات الحرجة التي قد تنهي الاستفادة من المكمن مستقبلا.
وتردد في الأونة الاخيرة وعبر وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع فيديو وخرائط مع الخبر التالي “وكالة ناسا الفضائية الأمريكية تكتشف بحر من المياه العذبة في الصحراء الغربية وهي تعادل 1700 مرة بقدر سد الموصل وهو ممتلئ والسد سعته 29 مليار متر مكعب”، مع الخارطة التشريحية للتضاريس في العراق، وتفصيلات أخرى مبالغ فيها طبعا، مع تعليقات تدل على تفاؤل معظم متلقي الخبر والتعامل معه على أنه حقيقة واقعة لامحالة، فيما أستفسر البعض عن صحة الخبر، ويبدو من التعليقات أن معظم متلقي الخبر اعتبروه وكأنه حقيقة واقعة لامحالة بالرغم من ان السعة الاستيعابية لسد الموصل تبلغ حوالي 11 مليار متر مكعب وليس 29 مليار، وأن المعلومات التي صرح بها خبراء في وزارة الموارد المائية العراقية أفادت أن خزين المياه الجوفية السنوية المستدامة أو المتجددة في كافة انحاء العراق هو بحدود 5 مليار متر مكعب فقط. وبذلك فان كمية المياه الجوفية منها في الصحراء الغربية لا تتجاوز مليار متر مكعب سنويا. وبعد البحث تبين ان هنالك مصدرين منفصلين تم دمجهما لاخراج هذا الخبر
المصدر الأول: وبعنوان “ناسا تكتشف مياهاً جوفية في صحراء الكويت بتاريخ 26 أيلول 2011.” والخبر يقول: نجح فريق بحثي من وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) في رصد عمق المياة الجوفية في الصحراء شمال الكويت، من خلال تقنية “الرادار المحمول جواً”، مستخدماً نموذجاً مصغراً لقمر اصطناعي يستخدم الموجات الرادارية منخفضة التردد (40 ميغا هيرتز)، تحمله طائرة مروحية، وصولاً لرسم خرائط للمياه الجوفية في الصحراء.
ويستطرد الخبر وقال عالم الفضاء، الدكتور عصام حجي، من معمل محركات الدفع الصاروخي في وكالة (ناسا) رئيس الفريق البحثي، إن نجاح تجربتنا البحثية الأولى في صحراء الكويت، التي استمرت أسبوعين، يمهد لفهم تطورالمياه الجوفية في الشرق الأوسط، مشيراً إلى أنه تم استخدام التكنولوجيا المتطورة للموجات الرادارية التي استخدمت لاستكشاف المياه تحت سطح كوكب المريخ، وصولا لرصد عمق المياة الجوفية في صحاري كوكب الأرض.
والموضوع كله عن صحراء الكويت، ولا تحدد هذه التقنية بالذات مباشرة لا كميات المياه ولا نوعيتها وانما احتمالية وعمق تواجدها في الطبقات السطحية التي لا تتجاوز 20-60 متر عن مستوى سطح الأرض.
المصدر الثاني: فيديوات على يوتيوب بعنوان “اكتشاف العالم الفرنسي لمياه جوفية في غرب العراق تعادل أكبر من 1700 مرة من سد الموصل الكبير2022”. والفيديو يدور حول مهندس استشاري فرنسي اسمه الان غوتشيه كان قد قدم عرضا لوزارة الموارد المائية في العراق عام 2014 حول نتائج تقريرالتحريات التي اجراها عن المياه الجوفية في الصحراء الغربية في العراق، والذي تضمن اكتشافه لكمياتها الهائلة من تطبيق المسح بالرادار “حسب ادعاء المتحدث في الفيديو” الذي يضمن سبر الطبقة العليا من الصحراء الغربية بعمق 20 متر فقط. ويستمر المتحدث بعرض خرائط واشكال ومقاطع عرضية جيولوجية عن مكامن مياه جوفية عميقة مشتركة بين العراق والسعودية ليعطي انطباع انه اكتشف هذه الطبقات مع استنتاجات اخرى معظمها موجود ومنشورفي العراق وعالميا منذ عقود. علما أن استخدام طريقة سبر الطبقات السطحية بالرادار تحتاج إلى تحريات من أرض الواقع لمعايرة دقة النتائج (Ground Truth Data) ولكن يبدوان المهندس الفرنسي الان غوتشيه لم يستطع زيارة الصحراء الغربية عام 2014 نتيجة الاحداث الامنية انذاك وقام بالمقارنة والمعايرة في اقليم كردستان!! والكل يعلم أن مكامن المياه الجوفية في كردستان في مناطق جبلية ومرتفعات وليس مناطق الصحراوية. وتبين من حديثه أن وزارة الموارد المائية في العراق على ما يبدو رفضت العرض الذي تقدم به الاستشاري الفرنسي مما أدى إلى افتعال هذه الضجة بعناوين مبالغ بها حول كميات المياه الجوفية في الصحراء الغربية.
ونتيجة لحالة الجفاف التي مرّ بها العراق خلال السنوات الاربعة الماضية بسبب قلة السقيط المطري وانخفاض الوارد المائي السنوي لنهري دجلة والفرات إلى الاراضي العراقية نتيجة حجبها بالسدود في كل من تركيا وإيران، تقبل الكثير من المواطنين هذه الادعاءات على أمل ان تكون صمام الامان لمستقبل العراق المائي.
لقد نفت وزارة الموارد المائية في العراق وجود مثل هذه الكميات من المياه الجوفية في الصحراء الغربية على لسان المسؤولين فيها وحذرت من موضوع التمادي في حفر الابار بدون موافقات من الجهات المسؤولة لخطورة هذا الموضوع على مستقبل الامن المائي والغذائي في العراق.
وأشار مستشار وزارة الموارد المائية العراقية عون ذياب في حديثه لقناة “الجزيرة” آنذاك إلى الارقام المبالغ فيها نافيا صحتها، وكشف عن حجم الخزين الاستراتيجي من المياه الجوفية المتجددة في العراق، وحذر بشدة من الاستخدام الجائر لتلك الثروة المائية الطبيعية. سيما وان هنالك ما يقارب 85000 بئر غير مرخص رسميا من قبل الجهة المسؤولة عن حماية مكامن المياه الجوفية. وأن المجاز منها لا يتجاوز 17000 بئر فقط وهنا تأتي خطورة ترويج مثل هذه الادعاءات وتداولها بأسلوب يبدو علميا وواقعيا.
لقد اضطرت الجهات الحكومية المسؤولة عن توزيع المياه للقطاع الزراعي في العراق إلى تقليص مساحة الاراضي المزروعة إلى 4 مليون دونم فقط خلال السنوات الأربع الماضية، أي ما نسبته 50 بالمائة قياسا بالسنوات التي سبقتها. علما أن مجمل الاراضي الصالحة للزراعة في العراق تبلغ 36.8 مليون دونم منها 14.72 مليون دونم في مناطق الشمال والجزيرة التي يعتمد اروائها على السقيط المطري، وما تبقى من هذه الاراضي اي نحو 22.08 مليون دونم وسط وجنوب العراق تعتمد في اروائها على نهري دجلة والفرات عادة، الا أن التناقص المستمر في مناسيب مياه النهرين أدى إلى تقلص المساحات المزروعة خلال العقود الثلاثة الماضية.
أخيرا، لابد من التأكيد على ان العراق يمر حاليا بمرحلة من الشحة المائية نتيجة حجب معظم الواردات المائية لنهري دجلة والفرات وحتى شط العرب جنوب العراق.
إن حاجة العراق من المياه للاغراض الزراعية والصناعية والسكانية وغيرها تبلغ حوالي 70 مليار متر مكعب سنويا، الا أن ما يدخل اراضيه من مياه نهري دجلة والفرات لم يتجاوز 25 مليار متر مكعب عام 2022، أي أن هنالك فجوة مائية بين الطلب والوارد المائي وصلت لاكثر من 45 مليار متر مكعب عام 2022، كان من نتائجه فقدان نسبة عالية من الخزين الاستراتيجي للمياه في معظم خزانات العراق وجفاف بحيرات ساوة والحبانية ومعظم بحيرة الرزازة.
وقد حذرت منظمات الأمم المتحدة ذات العلاقة من أن العراق حاليا يفقد مايقارب 25000 هكتار سنويا من الأراضي الصالحة للزراعة للتصحر وانحسار الغطاء الأخضر الطبيعي وجفاف الاراضي الزراعية مما يتطلب الحفاظ على الثروة المائية السطحية والجوفية والتعامل مع استخداماتها بما يضمن عدم تجاوز كميات الضخ الامن (Safe Yield) الذي يجب أن تحدده الدولة لكل مكمن من مكامن المياه الجوفية في العراق بقانون صارم فيه غرامات وعقوبات للمتجاوزين والذي من الممكن ان يحافظ و يحقق استدامة المكمن وتجدد تغذيته الطبيعية أو الاصطناعية.
————————
نظرا لطول عدد مصادر هذه الدراسة باللغتين العربين والانجليزية نحتفظ بها ونقدمها لمن يطلبها من قراء الموقع