أي مستقبل ينتظر العراق وهل من خارطة طريق بعد الانتخابات؟
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:
السلام عليكم ورحمه الله وبركاته، ومرحبًا بكم أيها الجمع الكريم في هذا اللقاء، الذي يطيب لي في بدايته أن أشكر الإخوة في (منتدى الأخوة الأتراك العرب) ((TAK على هذه الدعوة الكريمة.
حديثنا اليوم ينقسم على محورين، نعتمد فيهما عرض مفردات موضوعنا في خطوطه العامة وسياقاته الرئيسة، وهما:المحور الأول: مقدمات الانتخابات ومجرياتها
جاءت هذه الانتخابات في سياق تصريحات أمريكية على أكثر من مستوى؛ مبددة أحلام كثيرين ممن كانوا يعولون على تغيير أمريكي (ما) قبيل الانتخابات، وعدم إجرائها، وهي أمنيات تكشف عن غير دقيق لمجريات الأحداث حين يراد لقرارات مصيرية أن تُتخذ؛ على خلفية أن هناك خلافات عميقة بين واشنطن وطهران!.
وهذه الخلافات -كما هو معروف- ليست جديدة، وقد اعتدنا في العراق على أنها تحل غالبًا -بطريقة أو أخرى- وتُخرج حلول الأزمات فيها بين الطرفين: سياسيًا وأمنيًا بطرائق مختلفة، ثم لا يظهر لها أثر ملموس على الأرض وفي واقع الناس.
وقد شهدت الأشهر السابقة للانتخابات كثيرًا من التكهنات، والكتابات، والسيناريوهات لهذا التغيير المنتظر؟ ولكنها ذهبت جميعًا أدراج الرياح؛ بل صدرت تصريحات معاكسة تمامًا، وآخرها تصريح وزارة الخارجية الأمريكية قبيل الانتخابات بأيام، الذي نصَّ على أن: نتيجة الانتخابات البرلمانية المقبلة تعود للشعب العراقي فقط، وأن العراقيين هم من يقررون.
وقد كانت هذه إشارة واضحة وصريحة على مضي الانتخابات في طريقها، وقطع أمل المنتظرين للتغيير الخارجي.
وكما تعلمون؛ فإن معظم الأدبيات المعنية بالاقتراع والانتخابات -من حيث المفهوم والتطبيقات- تنص على التمييز بين شكل الانتخابات ومضمونها؛ حيث توجد الأشكال الانتخابية أحيانًا؛ ولكن يغيب المضمون الانتخابي عنها، نحو حالة عدم توفر الخيار الحر وغير المزيف للاختيار بين بديلين على الأقل.
وتقيم معظم دول العالم الانتخابات -كما تعلمون أيضًا- ولكن تفتقد في تجارب عدة صفة التنافسية الحقيقة، حينما يحظر على بعض الأحزاب والتوجهات المشاركة فيها، أو تحظر جميعًا لصالح حزب واحد ينافس نفسه.
وتعد الانتخابات الحرة من أهم الضمانات السياسية للحريات والحقوق العامة للشعوب؛ حيث تصبح الحقوق العامة غير ذات معنى؛ إذا لم يستطع المواطنون التعبير بوساطتها عن اختياراتهم السياسية فيمن يمثلهم في المجالس النيابية، أو من يقترعون ليتولى الحكم نيابة عنهم.
ويحيط المشرِّع عادة في دولة ما -أو هكذا يفترض- عملية الاقتراع أو التصويت بقواعد وشروطٍ منظمة لها، تتضمن تمكين الناخب من التعبير عن رأيه والمشاركة بحرية في العملية السياسية وحمايته من أيّ ضغوط أو تأثيرات خلال محاولة المرشحين إقناعه ببرنامجهم السياسي بطرق قانونية.
وهذا ما هو حاصل في العراق؛ بل هو النموذج الذي يكاد يكون الأكثر دلالة على مخالفة التطبيق للمفهوم المفترض؛ لأسباب كثيرة، منها:
أولًا: انتقلنا في هذه الانتخابات إلى مرحلة خطيرة من مراحل التأثير على النسيج المجتمعي للبلاد؛ فقد جرى التنافس هذه المرة بين الناخبين -بحكم عوامل مختلفة- على مستوى الأقضية والنواحي والوحدات الإدارية الأصغر وصولًا إلى القرى والبيوتات.
ثانيًا: أدت النقطة المتقدمة -على صعيد العملية الانتخابية- إلى تفتيت الكتلة الانتخابية، وتشتت الأصوات بين أعداد المرشحين الكثر؛ مما أسهم في نشوب الخلافات بين أبناء القبائل؛ بل بين ابن هذا الفخذ وهذا الفخذ في القبيلة الواحدة؛ بل بين ابن هذه العائلة وتلك العائلة في الفخذ نفسه؛ حتى وصلنا إلى الخلاف في العائلة الواحدة.
ثالثًا: كثرة تصريحات السياسيين والمتنفذين في الحكم بالدعوة إلى محاربة الفساد والإصلاح، التي سرعان ما تختفي بمجرد انتهاء العملية الانتخابية، التي تقوم هي نفسها بترسيخ آليات الفساد المستشرية في أوساط المؤسسات الحكومية وغيرها.
وأبرز مظاهر هذا الفساد هو موضوع شراء البطاقات الانتخابية، الذي ليس جديدًا؛ ولكنه فاق هذه المرة كل التجارب السابقة سعة وانتشارًا.
رابعًا: استخدام الشحن الطائفي من أجل الدفع إلى المشاركة بالانتخابات، ولهذا الشحن أمثلة كثيرة، كانت الحوارات التلفزيونية على مدى الأسابيع السابقة ليوم الانتخاب حافلة بها، وبرزت فيها كمية هائلة من عبارات التحريض الطائفي، وإقصاء هذه الفئة أو تلك، وهذه الجهة أو تلك من الانتخابات.
خامسًا: استمرار هيمنة قانون الانتخابات وأنظمة التمثيل لصالح القوائم الكبيرة المتبعة في انتخابات سابقة؛ حيث اعتمدت طريقة التوزيع بين القوائم المعروفة بـنظام (سانت ليجو) المعدل؛ التي تجعل من الصعب على الأحزاب الصغيرة والمستقلين المنافسة مع الأحزاب والقوى الكبيرة.
وحتى لو فازت بعض هذه الأحزاب والمرشحون؛ فإن واقع العملية السياسية المرير وسياسات التكتل وشراء الأصوات وشراء النواب بعد فوزهم معروفة ومعلومة، وقد فعلها كثيرون ففازوا كمستقلين أو مع كتل معينة ثم بعد ذلك انضموا إلى كتل أخرى.
سادسًا: لم يتم في هذه المحطة الانتخابية كما في سابقتها إجراء تصويت خارج العراق؛ وبما أدى لتغييب أصوات ملايين العراقيين خارج البلاد بذريعة التكاليف المادية؟!.
سابعًا: شاركت في الانتخابات عدة كيانات ميليشياوية مسلحة بواجهات سياسية، وهنا مفارقة مهمة؛ فهي ليست قوى سياسية لديها أجنحة عسكرية، وإنما ميليشيات عسكرية اتخذت لها عناوين سياسية.
ثامنًا: شهدت مرحلة ما قبل الانتخابات مزيدًا من حالات العنف؛ نتيجة التوتر السياسي والصراعات الطائفية والمصلحية.
تاسعًا: انتشار الدعوات لمعاقبة المقاطعين للانتخابات، في مشهد غير مسبوق؛ حيث صدرت دعوات -بعضها رسمي وبعضها اجتماعي وإعلامي وديني- لمعاقبة المقاطعين للانتخابات؟! وكأن المقاطعة ليست حقًا دستوريًا وسياسيًا -كما يفترض- يمارسه المواطن عندما يفقد ثقته بالنظام السياسي والانتخابي؛ بل جريمة.
أما محاولة (شيطنة) المقاطعين، فهي دليل على ذعر سياسي من حجم الرفض الشعبي للعملية السياسية برمتها، وقصور سياسي فاضح لدى بعض من تولى هذه الدعوة، أو إصرار على إضفاء الصفة الشرعية الدينية على أهداف سياسية وأهواء انتخابية بحتة.
وعطفًا على النقاط المتقدمة؛ فقد كانت تقارير بعض وكالات الأنباء ووسائل الإعلام الدولية؛ تعبّر في عدد من تغطياتها عن الواقع الحقيقي لهذه الانتخابات بعيدًا عن وسائل الإعلام المحلية المطبّلة لها، ووسائل الإعلام العربية المرددة لصدى هذا التطبيل؛ بل والمحتفية به هذه المرة على خلاف المعتاد في مرات سابقة؟!.
واقتبس فيما يأتي بعض ما ورد في أحد التقارير الإخبارية الدولية عن الانتخابات والمتوقع منها:
1- مع استعداد السياسيين للانتخابات؛ الرأي العام في العراق يستعيد خيبة الأمل.
2- الحملات الانتخابية الجارية في العراق لا تحسّن من معنويات العراقيين؛ إذ إن من المتوقع أن تحافظ التحالفات الطائفية المألوفة على قبضتها على السلطة.
3- غالبية الشعب العراقي يرى أن نتائج الانتخابات محددة سلفًا ولا تهدف إلا إلى إبقاء التوازن السياسي في أيدي الأحزاب والكتل الطائفية نفسها.
4- لافتات الحملات الانتخابية التي تزعم الإصلاح مجرد شعارات جوفاء من النخب التي لم تقدم الكثير.
5- منذ احتلال البلاد سنة (2003م) إلى اليوم يعاني العراق من تاريخ طويل من الفساد والبطالة المرتفعة وسوء الخدمات العامة، التي أدت إلى تدهور الحياة اليومية مع تحوّل ما تسمى الانتخابات الديمقراطية إلى أمر اعتيادي.
6- يشكو العراقيون من أن العديد من القادة السياسيين منغمسون في صراعات طائفية على السلطة؛ مما يحول دون معالجة مشاكل العراق على الرغم من ثرواته النفطية الهائلة.
المحور الثاني: نتائج الانتخابات
أفرزت هذه الانتخابات -كسابقاتها- عن مجلس نواب لا يستطيع النهوض بمسؤولياته المفترضة، فهو أبعد ما يكون عن العمل على تحقيق تطلعات المواطنين الذين أنهكتهم الأوضاع المزرية في مختلف مجالات الحياة؛ حيث تغلب على المجلس المصالح الضيقة، وتتحكّم بمساراته القوى الخارجية والإقليمية المتحكمة في المشهد العراقي.
فضلًا عن هيمنة القوى السياسية عليه، ولا سيّما القوى الموالية لإيران المنضوية فيما يدعى (الإطار التنسيقي)، وظهور كتلة نيابية لنواب الميليشيات تتجاوز السبعين نائبًا، وعودة قضية اختيار رئيس الوزراء إلى عرين الإطار وحلفائه، واستفراده بها هذه المرة من غير نكير؛ حتى قبل انعقاد مجلس النواب واتضاح صورة الكتلة الأكبر فيه؟!.
وبناءًا على ما تقدم؛ يمكننا القول بكل ثقة: إنه لا جدوى من انتخابات تُعيد إنتاج الأزمات، في ظل غياب الشروط الأساسية الضامنة لنزاهة العمل السياسي العام في العراق، وانعدام البيئة الآمنة للناخبين، وعدم استقلالية المؤسسة الانتخابية نفسها، وسطوة السلاح الميليشياوي وانتشاره.
فالمشكلة ليست في الانتخابات وآلياتها فحسب، وإنما في النظام السياسي في العراق نفسه، الذي أفرز بنية سياسية حزبية عصية على التغيير، قامت على أسس وقواعد معوجة ومعيبة لا يمكن إصلاحها بالانتخابات المزوقة؛ فهي معدة لتفرز نتائجها بناءًا على النسب العددية المقررة مسبقًا، والحدود الموضوعة للتركيبة المجتمعية عينها؛ التزامًا بتفاهمات التوافق السياسي بين الأطراف المهيمنة على الحكم، منذ تجربة (مجلس الحكم)؛ عام (2003م).
ونذكر هنا بصدد هذا بتصريحات مستشارة الأمن القومي الأمريكي (كوندليزا رايس) في الانتخابات الثانية عام (2005م)؛ عندما قالت: (أتوقع) أن (السنة) سيحصلون على (55) مقعدًا؟! وجاءت النتائج كما (توقعت)؟! بواقع (44) لجبهة التوافق و(11) لجبهة الحوار.
وهذا ما حصل هذه المرة أيضًا فالنسبة التي حصل عليها النواب (السنة) لم تتجاوز نسبة (20%) المعلومة، التي قد تزيد قليلًا أو تنقص قليلًا بحكم عوامل مختلفة.
وعليه يصبح الحديث عن الإصلاح من بوابة الانتخابات في العراق؛ وهمًا لا طائل من ورائه، والبحث عن خارطة طريق ما بعدها؛ ترفًا فكريًا محضًا، أو تنظيرًا لا واقع له -للأسف-.

