أخبار الرافدين
د. مثنى حارث الضاري

فيض ذاكرة

العلماء في خدمة المجتمع (1_3)

المحن في حياة الأمم هي أوقات الاختبار والامتحان التي تظهر فيها المعاني الحقيقية لأبناء هذه الأمم بغض النظر عن انتماءاتهم المختلفة ونشاطاتهم الإنسانية المتنوعة وانشغالاتهم الحياتية الكثيرة، والعلماء ونعني بهم هنا -وفق العرف الشائع على ألسنة أبناء هذا العصر-كل من اتصف بالعلم الشرعي واشتغل به عالمًا متقنًا كان أو طالب علم؛ ليسوا بدعًا عن هؤلاء، بل منطق الأمور وقبل ذلك مبادئ الشرع ومقاصده توجب عليهم أن يكونوا في طليعة هؤلاء.

من هنا تأتي أهمية هذه السطور التي تبحث في ما يمكن أن يقوم به العلماء لخدمة مجتمعاتهم في الأوقات التي تمتحن فيها زمن الاحتلال، وبالتحديد في تجربة هيئة علماء المسلمين في العراق وجهودها لمناهضة الاحتلال الأمريكي-البريطاني في السنوات الأولى من عمر الاحتلال في العراق، وأثرها في المجتمع العراقي في مختلف الجوانب التي اهتمت بها وعنيت بالاشتغال فيها.
ويمكن لنا أن نتناول هذه التجربة في محورين اثنين، هما: أهداف الهيئة، وجهودها في هذا المجال المهم:
أهداف الهيئة: نشأت هيئة علماء المسلمين في وقت مبكر جدًا بعد احتلال في العراق، بل تكاد تكون أسرع المؤسسات غير الرسمية نشوءًا؛ فقد أعلن عن تشكلها بعد الاحتلال بأيام فقط، وتحديدًا في (14/4/2003). وكانت نشأتها تلبيةً لحاجة واقعية وماسة لبروز إطار شرعي يهتم بما يهتم به العلماء في هكذا ظروف من: سياسة للناس، وتوجيه لهم، وأخذ بأيديهم، ووعظ وإرشاد، ودلالة على الخير، ورفع للهمم والمعنويات، فضلًا عن مهام أخرى لا تدخل في الظروف الطبيعية في سياق الخدمات التي يقوم بها العلماء عادة.
وبيّن الإصدار الأول للهيئة وهو (نظام الرأي والفتوى والسياسة الشرعية لهيئة علماء المسلمين في العراق)، متطلبات هذه الحاجة قائلًا: “لقد عزم علماء المسلمين في العراق على إنشاء هيئة ذات شخصية معنوية جامعة للرأي والفتوى والسياسة.. على أن تعمل الهيئة على تبني مصالح الأمة وكشف خطط الأعداء”.
وتكفل الإصدار الثاني للهيئة (هيئة علماء المسلمين في العراق؛ التعريف والمفهوم) ببيان أن عمل الهيئة في العراق يدور في إطار مجالين كبيرين هما:
الأول: الاهتمام بالقضايا الراهنة التي يعيشها البلد تحت وطأة الاحتلال وثقله، والتعاون مع الأطراف المعنية التي يمكن التعاون معها لمعالجتها بما يتناسب والحال الحاضر.
والثاني: الاهتمام بالبناء الداخلي للمسلمين؛ ليستعيدوا النشاط الحيوي في المجتمع على أساس الإيمان بالله واليوم الآخر.
وقد سارع أعضاء الهيئة بناءً على ما تقدم إلى بذل جهود كبيرة، توزعت على: الأعمال الإغاثية، وحماية المؤسسات والمرافق الخدمية وحراستها، وحفظ المال العام، فضلًا عن مسك زمام الشؤون الدينية وإعادة لملمة أمور الأوقاف والإشراف على المساجد، وحل المشاكل الناشئة فيها وإدارتها وتوجيهها لخدمة المجتمع.
وقامت الهيئة بكل ما تقدم في أيامها الأولى بداهة وعفوية، وبتعاون كبير من أفراد المجتمع الذين تفاعلوا مع هذه الجهود.
وحرص المجلس التأسيسي للهيئة عند أول فرصة استطاع فيها وضع الخطوط العامة لنظامه الداخلي، على أن يضع في أهداف الهيئة هذه المهام ويزيد عليها ما هو متوقع أن تقوم به الهيئة لاحقًا؛ فجاء نظامها الداخلي دالًا على انتباهها مبكرًا إلى المهمة الكبيرة المناطة بها في ظل هذه الظروف الاستثنائية وحجم المسؤولية الملقاة على عاتق الثلة من العلماء وطلبة العلم، الذين سارعوا إلى القيام بالواجب العيني عليهم، وأقاموا الهيئة على أساس خدمة الدين والمجتمع مستلهمين تجارب إسلامية سابقة في هذا المضمار، لعل من أبرزها تجربة (جمعية العلماء المسلمين في الجزائر) في النصف الأول من القرن الميلادي الماضي.
ويظهر هذا الحرص جليًا فيما نصت عليه المادة الخامسة من النظام الداخلي للهيئة، التي تضمنت جملة من الأهداف المهمة، منها:
1-  تثبيت العقيدة الإسلامية في النفوس، ونشر حقائق الدين الإسلامي وفضائله.
2-  ترسيخ قواعد الأخوة والتضامن بين المسلمين، والعمل على إزالة الفرقة والخلاف فيما بينهم، وإشاعة روح التفاهم والتسامح بين أبناء الشعب العراقي بمختلف انتماءاتهم الدينية والعرقية، ونبذ كل ما يفرق وحدة المسلمين.
3-  المساهمة في إحياء تراث الأمة الإسلامية بكل الوسائل الممكنة داخل العراق وخارجه.
4-  الاهتمام بالمرأة من حيث التوعية الإسلامية والتثقيف العام، ومنحها الفرص الكاملة لتقوم بدور فعَّال في بناء المجتمع الإسلامي وفق ضوابط الشريعة الإسلامية السمحة.
5-  الاهتمام بحقوق الإنسان داخل العراق وخارجه، والدفاع عنها وفق ما أقرته الشريعة الإسلامية وتناولته النظم الوضعية مما لا يتعارض مع مقاصد الشريعة.
وقدمت الهيئة لهذه الأهداف بمقدمة تناولت فيها الشاغل الأساسي لها في ذلك الحين وهو الاحتلال كونه (واجب وقت) ونصَّت فيها على “العمل على تحرير العراق بكل الوسائل التي أتاحتها لنا الشرائع السماوية والنظم الوضعية، وتوعية الناس بعدم الاستسلام للواقع المر الذي تعيشه الأمة والوقوف بحزم أمام أي قوة تريد سلخ العراق من هويته التاريخية والحضارية والحرص على وحدته واستقلال أراضيه كونه جزءًا من أمته العربية ووطنه الإسلامي الكبير”.
ويدل هذا على أن الهيئة لم تحصر أهدافها في الإطار الديني المحض وإنما وسعت من نطاق عملها استجابة لظروف المرحلة الاستثنائية التي ولدت فيها؛ ولذا رأينا بروز اهتمامات حقيقية للهيئة في مجالات عدة، شملت الجوانب السياسية البحتة -كما تقدم ذكره- والجوانب الوطنية العامة مثلما يظهر في البند الثالث من المادة -متقدمة الذكر- الذي ركز على مبدأ الوحدة بين أبناء المجتمع بمختلف أطيافه، فضلًا عن الجوانب العلمية والاجتماعية وحقوق الإنسان، كما يظهر من باقي بنود هذه المادة.
وأبقت الهيئة الباب مفتوحًا لكل هدف سامٍ آخر يقره الشرع ويعتمده، وهو الأمر الذي فتح الباب واسعًا لنشاطات أوسع وجهود أكبر سلكتها الهيئة فيما بعد في مختلف الجوانب الحياتية. ويحدد الدكتور (محمد بشار الفيضي) -عضو الأمانة العامة للهيئة والناطق الرسمي باسمها- الأهداف المتقدمة في ثلاث مهام أساسية عملت الهيئة على النشاط فيها في بداية انطلاقها، وهي:
1- المهمة الأولى: “معالجة الخلل الكبير الذي طال منظومة المساجد في البلد؛ بسبب انهيار المؤسسات التي كانت تعمل على إدارتها، فاضطرت الهيئة لملء الفراغ الطارئ، وقامت بممارسة دور وزارة الأوقاف المنهارة في إدارة المساجد، وقدمت بهذا الصدد خدمات جليلة”.
2- المهمة الثانية: “العمل على تهدئة الأوضاع الداخلية بين مكونات الشعب العراقي، والحيلولة دون وقوع فتنة طائفية أو عرقية أو دينية. فقد بدا للهيئة أن الاحتلال يحمل معه أجندة إيقاد حرب أهلية، تغرق البلاد في بحر من الدماء، وتجعل جنوده بمأمن من مقاومة الشعب وجهاده في سبيل الاستقلال… فسارعوا -أي أعضاء الهيئة- إلى إجراءات احترازية عدة كان منها: القيام بزيارات منظمة لمرجعيات دينية، ورجال سياسة، ووجهاء، ورؤساء عشائر من كل الأطياف الدينية والمذهبية؛ لغرض التوعية بهذا الشأن. واستطاعت -بفضل الله- أن تتبادل معهم مواثيق وفتاوى والتزامات، تؤكد حرمة دم المسلم، وتحذر من الانزلاق في فتن يعدُّ لها العدو بمهارة، فضلًا عن التوعية المنظمة لجماهير شعبنا بهذا الخصوص”.
3- المهمة الثالثة: “كان من الواضح أن الإدارة الأمريكية لديها مشروع كبير في المنطقة يستهدف الهوية الإسلامية لها، فضلًا عن اقتصادها وعوامل نهضتها، وكان احتلال العراق هو البداية… لذلك نشطت الهيئة للعمل وبالوسائل المتاحة لها على كشف النوايا الحقيقية للاحتلال، وتعبئة الشعب ضده… وقد ازدادت الثقة في أطروحات الهيئة، حول النوايا الحقيقية للأمريكيين، حين كشفت أعمالها عن: فضائح أبي غريب، والقتل العشوائي، والاعتداء على المصاحف والمساجد، وغير ذلك”.
وقد رصد باحثون ومتابعون للشأن العراقي هذه الاهتمامات رصدًا دقيقا وكتبوا عنها؛ فيقول الدكتور أكرم المشهداني في مقال له عن الهيئة: “تداعى علماء الدين العراقيون إلى تأسيس (هيئة علماء المسلمين في العراق) لتكون… وعاءً ينضوي تحته علماء الدين، بعيدًا عن النعرات الطائفية والمذهبية، ومحاولة صادقة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ووقف تداعي الأوضاع الداخلية، وكان في مقدمة أهداف الهيئة الدفاع عن حقوق الشعب العراقي بكل طوائفه، وحفل نشاط الهيئة في حماية المساجد وتعميرها، وتنسيق جهود خطباء المساجد من أجل شحذ الهمم الوطنية في مواجهة خطر الاحتلال، إضافة للقيام بالعديد من المهام الضبطية والاجتماعية والإنسانية”.
ويجمل مصطفى كامل أهدافه الهيئة في دراسته المبكرة عنها -بعد لقائه عددًا من أعضائها- في جملة جوانب، هي: “تقوية تلاحم العراقيين في ظل حملات التقسيم والشرذمة المقصودة، ومواجهة الاحتلال ومقاومته بالطرق السلمية وفضحه من خلال توعية العراقيين بمراميه ومقاصده… ولم ينس القائمون على الهيئة، الجانب الاجتماعي الذي يتحتم عليهم القيام به في ظل غياب مؤسسات الدولة بما يتضمن من توجيه ونصح وإرشاد ومساعدة”.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

شاهد ايضًا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى