أخبار الرافدين
د. رافع الفلاحي

حق القول

دستور بمقاسات الخراب (4)

في بدايات عام 2004، انتهى الأمريكي نوح فيلدمان من كتابة دستور العراق، فأقره الحاكم الأمريكي للعراق بول بريمر بدون استشارة أي عراقي، وكلف بترجمته محامٍ عراقي يحمل جنسية أمريكا ويعيش فيها، فجاءت الترجمة ضعيفة وركيكة من ناحية اللغة والصياغات القانونية، لكن ذلك لم يكن بنظرهم مهمًا، بل المهم حصول فيلدمان والمحامي لقاء مهامهما على ملايين الدولارات، دفعها لهم بول بريمر من أموال العراقيين.

وعندما تسربت الأخبار عن اكتمال كتابة دستور جديد للعراق، جاء من أمريكا مترجمًا وجاهزًا للتطبيق.. وجدت قوى وأحزاب العملية السياسية أن عرض هذا الدستور بكل ما فيه من ألغام ومثالب، سيؤدي إلى إمكانية ثورة العراقيين ضدهم التي باتت قريبة جدًا، في ظل تصاعد عمليات المقاومة العراقية ضد الاحتلال واتساع مساحة العراقيين المؤيدين لهذه المقاومة والداعمين لها، والذي بات الكثير منهم يراها الفرصة الوحيدة لتخليص العراق من الاحتلال وممن يساندونه ويقفون تحت مظلته. لذلك كان لابد لتجنب ثورة الشعب أن يتم تسويق خبر يقول إن “مرجعية النجف” أعلنت أن العراقيين لن يقبلوا بدستور لا يكتب من قبلهم، فقام الحاكم الأمريكي بول بريمر بتشكيل لجنة أطلق عليها جزافًا تسمية “لجنة كتابة الدستور”، مؤلفة من بعض العراقيين الذين رشحتهم أحزاب وقوى العملية السياسية وعدد ممن قالوا إنهم “مستقلون”، وليس بينهم جميعًا خبير دستوري واحد.
ولأن اللجنة وفقًا لتشكيلها “المرتب” من قوى وأحزاب العملية السياسية التي هي أساسًا أجيرة عند قوى الاحتلال وعليها أن تنفذ فقط ما يطلب منها، لذلك لم تفعل سوى إضافة ديباجة لمقدمة الدستور المترجم لا تساوي حتى ثمن الحبر الذي كتبت به “كما يقال”، وإضافة بعض المواد التي سبق أن وافقت عليها القوى التي تولت احتلال العراق منذ عام 2002 خاصة في  أثناء ما كان يعرف بمؤتمر المعارضة العراقية في لندن آنذاك، التي تتعلق بتسويق الفكر الطائفي والعرقي ووضعهما في إطار قانوني، بما يحيل العراق إلى بلد ضعيف ومشتت وفاقد لأهليته.
العديد من قيادات الحزبين الكرديين “الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الكردستاني”، تحدثت بعد عام 2005 عن استعانتها بعدد من الخبراء الغربيين في تأمين الأفكار للأعضاء الذين يمثلون الحزبين في لجنة كتابة الدستور وما يمكن أن يضيفوه من مواد، تشكل قنابل عنقودية داخل القنبلة الأساسية الكبيرة (الدستور) وتمهد فيما بعد لانفصال المحافظات الشمالية “أربيل ودهوك والسليمانية” إضافة إلى تمهيد الطريق لحلم ضم كركوك إليها أيضًا.
وفي هذا السياق كان زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البارزاني صرح بأن الاحزاب الكردية تقصدت في موضوع كتابة الدستور وضع عبارة “إن العراق دولة اتحادية وليست موحدة” لكي يعتمد عليها فيما بعد عند طلب الانفصال عن العراق.
أما الأحزاب الطائفية فقد وضعت فقرات تتحدث عن حقوق مذهب معين، وبما يثير الضغائن والفتن والأحقاد، ويدفع أبناء البلد الواحد إلى صراع وجود.
ومن هنا توفرت تلك “الثلاث” نسخ من الدستور التي أشار اليها إياد علاوي والتي أشرنا إليها في القسم (1) من سلسلة مقالاتنا، وقبل ذلك كان القيادي الكردي محمود عثمان ورئيس البرلمان السابق محمود المشهداني قد اعترفا بأن ما يسمى بلجنة كتابة الدستور، ناقشت مسودة كانت مكتوبة سلفًا باللغة الإنكليزية ومترجمة بشكل سيء، وإنهم جميعًا قاموا بالتصويت لصالح تسويق ذلك الدستور بطلب من الحاكم الأمريكي بول بريمر والسفير الأمريكي زلماي خليل زاد، لكون واشنطن  أرادت أن تقول إنها انجزت عملية تحويل العراق إلى بلد ديمقراطي كتب دستوره أشخاص يمثلون كل العراقيين، وأكدوا أن مواد ذلك الدستور كانت 139 مادة، إلا أن هناك 5  مواد أخرى أضيفت للدستور بعد الانتهاء من التوافق عليه، بأمر من سلطات الاحتلال الأمريكي في محاولة لدفع الحزب الإسلامي الذي كان يدعي تمثيل سنة العراق، للمشاركة في التصويت عليه بعد إعلانه أنه لن يشارك في التصويت على ذلك الدستور ومنحه الشرعية، ومنها المادة التي تتحدث عن إمكانية وآلية تغيير الدستور، والتي عاد الحزب الإسلامي وأعلن عشية الاستفتاء على الدستور بأنه سيشارك في تلك العملية، وصدر أمر من القيادي في الحزب الاسلامي طارق الهاشمي، لكل كوادر الحزب بالمشاركة بقوة في ذلك الاستفتاء ما أحدث شروخًا قوية داخل صفوف القوى السنية. علمًا أن قوى العملية السياسية الأخرى اعتبرت فيما بعد أن المواد التي أضيفت بعد المادة 139 غير شرعية لأنها لم تخضع لتصويتهم عليها.
وهكذا، تم تسويق دستور عام 2005 النافذ لحد الآن، بالتزوير وبالمواد الملغومة بعشرات القنابل العنقودية التي شكلت جسم القنبلة العنقودية الكبيرة التي سميت جزافًا: دستور العراق، التي وقفت ضد “إنتاجها” القوى المناهضة للاحتلال وفي مقدمتها هيئة علماء المسلمين في العراق، التي نبهت إلى أن دستورًا تم إخراجه بهذه الطريقة وبما يحتويه من كوارث وألغام، سيكون وبالًا على العراقيين وأحد المصادر الأساسية في تمزيق المجتمع العراقي وتوفير عوامل الفرقة والخراب وبث روح العداء والكراهية بين كل العراقيين، وقد أثبتت الأيام حقيقة ذلك الأمر

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى