أخبار الرافدين
د. مثنى حارث الضاري

فيض ذاكرة

العلماء في خدمة المجتمع (2-3)

جهود الهيئة ونشاطاتها
بعد النص على أهدافها سعت الهيئة حثيثًا إلى تحقيق ما يمكنها منها، وإنزالها على أرض الواقع عن طريق مقرها العام وفروعها التي فتحت في المحافظات والأقضية والمكاتب الملحقة بها، وبدأت بمزاولة نشاطاتها ذات الأبعاد المختلفة وبحسب الإمكانات المتوفرة لها، وقطعت شوطًا بعيدًا في ذلك على الرغم من الضغوطات السياسية والأمنية حينها. ويمكن في هذا المجال الإشارة إلى أمثلة من هذه النشاطات في عدة جوانب، وهي:

1- الجانب الخدمي العام
قامت الهيئة في الأيام الأولى لتأسيسها بحماية المؤسسات الخدمية وتسليمها للجهات المعنية بعد استقرار الأحوال الأمنية نسبيًا، ومن هذه المؤسسات: محطات الماء والمجاري والكهرباء، ومخازن المواد الغذائية، ومخازن الأدوية، ومخازن الوقود، وغيرها من الدوائر الخدمية في عدد من المناطق. وقامت الهيئة باستقبال المسروقات والمنهوبات وحفظها في المساجد والعمل على إعادتها إلى أصحابها، بعد التعرف عليها، وتوفير المساعدات الإغاثية السريعة لبعض المناطق والأحياء.
واعتنت الهيئة كثيرًا في هذه المرحلة بتوفير الخدمات الطبية الضرورية للمواطنين؛ تعويضًا عن فقدان هذه الخدمات بعد انهيار نظام الخدمات الصحية؛ حيث ساهمت الهيئة في محاولات إعادة تأهيل خدمات بعض مؤسسات وزارة الصحة، وافتتحت لهذا الغرض عشرات المراكز والعيادات الطبية الخيرية في المساجد وغيرها. وقد قدمت هذه المراكز والعيادات الخدمات الطبية والعلاجية للكثير من المدن والأحياء، وبقي قسم منها يؤدي عمله إلى سنوات لاحقة عن طريق القسم الصحي والإغاثي في الهيئة، الذي كان يشرف على هذه المراكز الصحية، ويوفر الخدمات الأساسية والمستلزمات الطبية والأدوية لعدد من المستشفيات والمراكز الصحية العامة والخاصة في بغداد وبعض المحافظات. وعُني هذا القسم أيضًا بتسيير عدد كبير من الحملات الإغاثية، إلى المدن المنكوبة في العراق، ويقوم إلى الآن بالإشراف على عدد من الجمعيات الخيرية المرتبطة بالهيئة بالتعاون مع القسم الاجتماعي وقسم متابعة الفروع.
2- الجانب الفكري والتوجيهي
أ- توجهت الهيئة في أيامها الأولى للأئمة والخطباء وطلبة العلم الشرعي في رسالتين مهمتين، تدعو فيهما إلى تجاوز كل الخلافات الفكرية والاجتهادية الفقهية والتسامي عليها وإرجاء كثير من الآراء الفقهية الجزئية المختلف فيها إلى ما بعد مرحلة الاحتلال، والدعوة إلى التعاون جميعًا لإنهائه وتقديم ما هو أهم في هذه المرحلة، وهو مساعدة الناس والأخذ بأيديهم لتجاوز المحنة التي حلت بالعراق. وجاءت هذه التوجيهات في مدة زمنية مبكرة من عمر الاحتلال لترسم للأئمة والخطباء والموجهين سبل العمل الجهادي التي ينبغي عليهم سلوكها وطرق التعبير عن رفضهم الصادق للاحتلال.
وما زالت الهيئة إلى الآن تواصل هذه الجهود في المحافظات والأقضية والنواحي التي تنتشر فيها فروعها، بقدر استطاعتها وحسب الفرص المتاحة لها على الرغم من التضييق الأمني الكبير عليها؛ وذلك بواسطة أعضائها العاملين في لجان الفروع، والمساجد التي ينشطون فيها والمدارس الدينية التي تُشرف الهيئة عليها إشرافًا كاملًا أو جزئيًّا.
ب- صاحب ما تقدم جهد إعلامي واكب هذه النشاطات وأسندها، ووفر فضاءً حرًا للتعبير عما يكتنف النفوس ويعتمل في الصدور بعد الهجمة الإعلامية الكبيرة المواكبة للاحتلال العسكري المُعدّ لها بإتقان. وقد قدمت الوسائل الإعلامية التي أنشاتها الهيئة: (صحيفة البصائر، والموقع الالكتروني الرسمي -الهيئة نت- باللغات العربية والإنكليزية التركية، وإذاعة أم القرى)، فضلًا عن المؤتمرات الصحفية والندوات الإعلامية والمشاركات المكثفة في وسائل الإعلام؛ الغطاء المعنوي لهذه الجهود التي كانت تصب جميعًا في صالح الهدف الرئيس وهو مواجهة محنة الاحتلال والتصدي لها، ورفع الهمم وتغذية عوامل الصمود والثبات في نفوس الشعب العراقي، وبث ثقافة المقاومة والدفاع عن مشروعها.
وتتبع الهيئة الآن فضلًا عما تقدم ذكره عدة مؤسسات دعوية وإعلاميَّة وثقافية أخرى وهي: مركز أم القرى للدراسات القرآنية، ومركز التوجيه والإرشاد النسوي، ومركز الأمَّة للدراسات والتطوير التابع لقسم الثقافة، ومجلة حضارة الفصليَّة الصادرة عنه، ومؤسسة البصائر للطباعة والنشر والتوزيع، ووحدة الأرشفة والتوثيق. وكانت مكاتب الهيئة الخارجية في (عمَّان، ودمشق، والقاهرة، وصنعاء، وأنقرة)؛ تعزز هذه الجهود وتعرّف بها.
ت- دعمت الهيئة جهودها في المجال الفكري والتوجيهي في وقت مبكر من عمر الاحتلال عندما أعلنت عن ميثاق الشرف الوطني في (27/جمادى الأول/1425هـ-15/تموز/2004م)، الذي كان بمثابة المنهج الفكري العام لطريقة تعامل الهيئة مع القضايا المصيرية للعراق في زمن الاحتلال؛ حيث أكدت الهيئة فيه على: “أن مصلحة العراق وشعبه لا يعرفها ولا يقدرها إلا العراقيون أنفسهم، ولا يخرجه من الدوامة المأساوية في كل المجالات التي وضع فيها منذ أكثر من عام إلا أهله، إن هم أرادوا ذلك، وأخلصوا لله ولوطنهم وتركوا الاعتماد على الغير مهما كان الغير قريبًا أم بعيدًا، فهو لا يتحرك إلا وفق مصالحه ومخططاته على حساب مصالح الشعب العراقي وتطلعاته”.
ودعت الهيئة في هذا الميثاق: “أبناء الشعب العراقي الكريم بمختلف أطيافهم وتوجهاتهم وانتماءاتهم إلى نبذ الخلافات والعمل معًا تغليبًا لمصلحة العراق التي هي مصلحة الجميع والتلاقي على ميثاق شرف يقوم على: الولاء لله أولًا ثم للعراق ثانيًا، وتقديم مصلحته على كل المصالح الشخصية والسياسية والمذهبية والعرقية وغيرها، ورفض الاحتلال بشتى صوره كل حسب استطاعته وبالطريقة التي يراها مناسبة ومؤدية لهذا الواجب الديني والوطني، والعمل الجاد لإنهاء الاحتلال بأسرع وقت ممكن وبكل الوسائل المشروعة… لأن الاحتلال يمثل المشكلة التي لا يمكن للعراق الخروج من الكارثة التي هو فيها اليوم بدون زواله نهائيًا”.
ودعتهم أيضًا إلى “الإقلاع عن كل ما يولد الحساسيات ويثير الخلافات ويؤجج الفتن من أقوال وأفعال وسلوكيات شخصية أو إعلامية أو غيرها، والعمل الجاد على جمع الكلمة ووحدة الصف وتوحيد الهدف للجميع في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ بلدنا وشعبنا لقطع الطريق على من يريدون الشر بالعراق وأهله تحقيقًا لمآربهم الخاصة، والحرص على وحدة العراق أرضًا وشعبًا وعدم التفريط بها تحت أي ظرف من الظروف، أو عذر من الأعذار”.
وبينت الهيئة رأيها في موضوع المصالحة الوطنية قائلة: “إن المصالحة الوطنية الصادقة هي التي يتم فيها جديًا القضاء على النـزاعات والخلافات وكل المظاهر المزعجة الغريبة على شعبنا والمهددة لاستقراره ووحدته، كالاختطاف والقتل، والتصفيات الوظيفية، ومحاولات الاستيلاء على الأموال العامة والخاصة ودور العبادة، وغير ذلك من الأعمال الشاذة”.
ودعت في ختام الميثاق إلى “إيجاد مرجعية أو لجنة متابعة عليا، لتفصيل مواد هذا الميثاق من كل الفئات الفاعلة وذات التأثير الحقيقي في الشارع العراقي للنظر في الأحداث والقضايا المستجدة التي تحتاج إلى حل أو رأي مشترك فيها”.
ويتوقف الباحث والكاتب طلعت رميح عند هذه النقطة أثناء حديثه عن مراحل تطور النشاط الفكري والسياسي للهيئة، قائلًا: “لكنَّ الهيئة من بعد تحولت إلى تجمع إسلامي أعلى من إطار المرجعية الفكرية، وأعلى من فكرة الحزب السياسي الناشط على صعد العمل السياسي والجماهيرية، كما تحول موقفها المؤيد لفكرة وحق المقاومة إلى نشاط فاعل وكبير. والمهم هنا هو أنَّ الهيئة في حد ذاتها، ومع تحولها إلى حالة متكاملة من النشاط، مثلت تطورًا في الفهم والتعاطي مع القضايا السياسية، بنفس القدر الذي أظهرت فيه عدم قدرة التيارات السابق وجودها قبل الاحتلال، على امتلاك القدرة والرؤية الصحيحة في التعامل مع تحدى الاحتلال، كما هي طرحت بوجودها قضايا عامة هامة على صعيد حالة التجدد في الاستجابة العقدية والفكرية والسياسية، لتحدى دخول قوات الاحتلال إلى البلاد الإسلامية، ونمط استجابة القوى السياسية لها..”.
ث- أصدرت الهيئة منهجها للإصلاح والتغيير الذي أسمته (مشروع الحياة المثلى) ونشرته على موقعها الإلكتروني الرسمي (الهيئة-نت) ثم طبعته لاحقًا طبعتين. وقد تناول هذا المنهج بالتفصيل رؤية الهيئة في الإصلاح والتغيير السياسي وسبل إنهاض الأمة ودعم عوامل مقاومتها في مجالات: السياسة المثلى لإصلاح الأوضاع العامة وتغييرها، والسياسة المثلى لإيجاد الحركات السياسية الصحيحة، والنظام السياسي للدولة (السياسة المثلى لإصلاح أوضاع السلطة والحكم)، والنظام الاجتماعي (السياسة المثلى لبناء إنسان الأمة والعناية بالمرأة)، والنظام الاقتصادي (السياسة المثلى لبناء اقتصاد قوي)، ونظام التعليم (السياسة المثلى لبناء الشخصية المعنوية للفرد والجماعة)، والسياسة المثلى لمكافحة الرذيلة والجريمة، والسياسة المثلى لحفظ الأمن، والسياسة المثلى لإدارة الشؤون الداخلية والخارجية، والسياسة المثلى لوضع الدستور، وحقوق الإنسان.
ويشير طلعت رميح أيضا إلى انتباه الهيئة لهذه المهمة التي أنيطت بها وسعيها إلى التفاعل معها ومواكبة تطوراتها، وكيف أنها “أصبحت تدرك طبيعة دورها الاستراتيجي في خوض معركة تحرير وبناء العراق، من خلال ما يلاحظ من تطويرها لأوضاعها الداخلية التنظيمية، بما انعكس في توسع ظهور العديد من قياداتها على المستوى السياسي والإعلامي، ومن خلال ما يلاحظه المتابع من تعميق وتوسيع الهيئة لإنتاجها الفكري، وعلى صعيد الدراسات السياسية والإستراتيجية، ومن خلال توسيع مشاركتها في النشاط السياسي والفكري والجماهيري والإعلامي على مستوى الهيئات الشعبية العربية الإسلامية، وهو ما ظهر من خلال مشاركة قيادات الهيئة وعدد من القيادات في المؤتمرات التي تضم النخب الفكرية والسياسية”.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

شاهد ايضًا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى