أخبار الرافدين
د. رافع الفلاحي

حق القول

في الطريق إلى نظام دولي جديد (1)

ما إن أطلت السنوات العشر الأخيرة من القرن العشرين، حتى كان العالم بأسره يصحو على أخبار انهيار الاتحاد السوفيتي وسقوط قلاع الشيوعية، وما كان في ذهن أحد أنها ستسقط يومًا بهذا الشكل الدراماتيكي.. وما كان محتملًا أن يقوم أحد زعماء تلك الإمبراطورية الشاسعة بتفكيك أوصالها بيديه، بعضهم رأى أنه مشهد مأساوي ومخيف يشبه انهيار الجبال أو ثورة البراكين، وأن صورة العالم وهو يجتاز عتبة السنوات الأخيرة باتجاه القرن الحادي والعشرين، عادت لتتشكل من جديد بإرادة الرأسمالية، اذ تخلصت زعيمتها الولايات المتحدة الأمريكية من الثنائية متساوية الحقوق والواجبات والقوى، وتفردت بزعامة العالم باختيار آخر زعماء الاتحاد السوفيتي “ميخائيل غورباتشيف” الذي رأى أن ثورة أكتوبر 1917 قد شاخت وآن الأوان لهدم الأسوار وفتح النوافذ والأبواب للرياح القادمة من الغرب “الأمريكي والأوربي” المتطور والمتفوق.

وبين مصدق ومكذب ومندهش كان الانهيار قد حصل وكانت الأسئلة تتوالد: هل هو انهيار اقتصادي وفشل أيديولوجي قد ألم بالتجربة السوفيتية والاشتراكية بعد نحو عام في مواجهة التجربة الأمريكية-الغربية الرأسمالية؟ هل إن ما يجري هو مشروع حقيقي لعالم القرن الحادي والعشرين. مشروع لعالم جديد ولمجتمع دولي جديد قائمين على العلم والمعرفة الصحيحة والإنتاج الأحسن وفي ظل العدل والحرية والمساواة واحترام إنسانية الإنسان، وخيارات الشعوب وتطلعاتها للرفاهية والاستقلال؟ ومن يفرض ذلك؟
وإذا كانت الاشتراكية قد عجزت عن تحقيق ذلك المشروع فما هو البديل الذي يحقق ذلك؟ أهو الرأسمالية بكل تأريخها المكتظ بالاستغلال والحروب والعنصرية والبطالة والاستلاب والجوع والاستعباد؟
وإذا لم تكن الرأسمالية والاشتراكية قادرتين على تحقيق المشروع فما هو البديل؟
البعض ممن لم ير من الرأسمالية وصناعها وحماتها سوى صور الرفاهية والاستهلاك الذي بلا حدود والأضواء المشعة والمظاهر الملونة، جرى ليرتمي بلا تفكير ولا شروط وبلا تحفظات في أحضان الرأسماليين ظنًا منه أن الخلاص عندهم،  حتى أنه تجرأ وأحرق كل تأريخ العقود السابقة ونسف كل جسور العودة التي قد يضطر لها، فيما رأى البعض الآخر أن المحنة الحقيقية قد حلت إذ غاب اليقين ولم تعد الشعوب تتذكر تأريخها وهي تركض متراجعة عن مواقعها نحو الغرب، تلك المواقع التي شيدت بدماء غزيرة وبتضحيات كبيرة، رافعة يدها مستسلمة للقدر الأمريكي-الغربي، أملًا في أن تنال الرضا والقبول لدخول القرن الحادي والعشرين بالشروط الرأسمالية.
هكذا كانت الصورة تتشكل والعالم يقطع السنوات العشر الأخيرة من القرن الذي شهد انحلال الإمبراطوريات القديمة في العالم وفي أوربا بشكل خاص، والحروب العالمية التي راح ضحيتها الملايين من البشر، وقام العالم في أثرها على محورين كبيرين وخطيرين هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، وما تبع ذلك من ظهور لما عرف بالاستقطاب الأيديولوجي، الذي قسم العالم تحت لافتات وشعارات إلى: عالم الحرية والديمقراطية والمنافسة الحرة الذي أدعت الأنظمة الرأسمالية أنها تمثله، وعالم المساواة والاشتراكية الذي أدعت الأنظمة الشيوعية أنها تمثله.. فكان الصراع الذي شهدت فصوله العقود الخمسة التي توالت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، والذي أصطلح على تسميته: الحرب الباردة، ولم يكن سباق التسلح واستنزاف القوى والحروب بالنيابة واستعداء هذا الطرف أو ذاك ضد أحد القطبين الكبيرين أو ضد بعضهم البعض، والأزمات السياسية والاقتصادية الكبرى، إلا بعضًا من مظاهرها ومن فصولها الدامية في حومة الصراع والاستنزاف والحركة المحسوبة أو المتهورة حفاظًا على التفوق وتفويت الفرص على الطرف الآخر للاستحواذ على مقدرات العالم.
وفي ظل كل ذلك، كانت شعوب كثيرة تتطلع إلى الواقع بعيون مفتوحة وعقول مستفزة، بعضها كان الأمل والاقتدار يسكنان نفوسها اعتمادًا على تأريخها المزدهر وثقة كامنة وحقيقية بقدراتها على تأسيس مشاريعها الخاصة بعيدًا عن ذلك الاستقطاب الأيديولوجي الذي فرضه التنافس والصراع الداميان بين معسكري الرأسمالية والاشتراكية، فراحت تعبر عن نفسها بثورات وطنية وقومية تؤكد من خلالها على الانتماء إلى جذورها الأصيلة، أو بتجمعات سياسية كحركة عدم الانحياز في محاولة منها لحماية نفسها قدر الإمكان وسد الثغرات وتقصير المسافات واختصار الجهد في إيجاد طرق الوصول إلى الأهداف بأقل الخسائر، خاصة أنها كانت تلمس بوضوح سعي هذا القطب أو ذاك، لتحويلها إلى مجرد تابع أمين أو ترس من تروس ماكناتهم. وبما يحقق أهدافهم الخاصة من دون مراعاة لخصوصية هذا الشعب وتلك الأمة، فيما كانت الأمم المتحدة تتحرك على وفق مشيئة القطبين بعد أن ولدت من رحم “عصبة الأمم” المنهارة فحملت بذور الضعف والاستلاب منها.
وفي مقابل ذلك كانت هناك شعوب مسحوقة يأكل “الجوع والأمراض والجهل وقلة الموارد والتسلط والفساد” الكثير من جرفها، فكانت تشكل خير صورة للمقولة الشائعة “إذا حضر لا يعد وإذا غاب لايفتقد”، إذ كانت نهبًا موزعًا ورؤوس جسور أو مناطق وثوب نحو أهداف حيوية.
والحديث مازال فيه الكثير.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى