أخبار الرافدين
د. مثنى حارث الضاري

فيض ذاكرة

الانسحاب وخفايا اللقاء مع الإبراهيمي

رؤى هيئة علماء المسلمين لإيجاد حل لأزمات العراق بعد احتلاله ليست بجديدة، وقد أعلنت عنها الهيئة مرارًا وتكرارًا منذ فترة طويلة، وجميع المتابعين على دراية بها، وهي تقوم على أسس عدة، هي
أولًا: المشكلة في العراق هي مشكلة احتلال، وكل المشاكل التي حدثت بعد ذلك لن تحل إلا بمعالجة أصل المشكلة. هذه هي المسلَّمة الأولى للهيئة بالاشتراك مع القوى المناهضة للاحتلال.
ثانيًا: المشكلة الأصل في العراق سياسية وليست طائفية، وأن المشاكل الطائفية الكثيرة التي ظهرت بعد الاحتلال قد كشفت عنها المشكلة السياسية، وفتحت الباب واسعًا لعدد من القوى السياسية لاستعمالها للتغطية على أهدافها في الحكم، أو لاستدعاء أبعاد طائفية وفرضها على المجتمع.
وتحدَّث البيان الأول للهيئة الصادر بتاريخ (16/7/2003م) بعد ثلاثة أشهر من عمر الاحتلال، عن مجلس الحكم، وبيّن أنه مرفوض من ناحيتين :
1- أنه أسس في ظل احتلال.
2- أنه قام على أسس طائفية وعرقية؛ ستؤذن بتقسيم العراق في المستقبل.
وقد رفضت عدد من الجهات السياسية الداخلة في المجلس هذا البيان قائلة: إن القضية هي قضية حقوق، وإن هناك أناسًا من الشعب العراقي قد ظلموا لمذهبهم ولعرقهم، ولاعتقادهم الديني، لذلك لابد أن توضع الأمور في نصابها. وردت الهيئة آنذاك: نعم هذا صحيح، ولا يمكن لأحد أن ينكره، ولكن يمكن أن يوضع هذا أيضًا في نصابه الصحيح، فتعاد كل الحقوق لكل من ظُلم، ولكن ليس على أساس بناء عملية سياسية في ظل الاحتلال، ووفق أسس طائفية وعرقية؛ لأنها ستظلم عراقيين آخرين، وستقوض العملية السياسية التي تقوم على هذه الأسس. وهذا ما وصلت إليه العملية السياسية بعد حين، وواقعها الآن دال تمام الدلالة على ذلك ولا يحتاج إلى شواهد.
وبعد ذلك بدأ الحديث عن الانتخابات، وحينها قالت الهيئة في بيانها رقم (14) الذي صدر في كانون الثاني/يناير 2004م: إن أي انتخابات في ظل الاحتلال لن تحقق النتائج المرجوة منها. وحدث وقتها حراك سياسي في الأمم المتحدة؛ للاطلاع على القضية العراقية، وبحث كيفية التعاطي معها، وحينها انتُدب ممثل الأمين العام الأخضر الإبراهيمي لهذه المهمة وزار العراق والتقى بكل الأطراف، واطّلع على كل وجهات النظر، ومن الأطراف التي التقى بها (هيئة علماء المسلمين) في مقرها العام بجامع أم القرى بتاريخ (12/2/ 2004م) حيث أعددنا له مؤتمرًا صحفيًا حاشدًا استمع فيه إلى آراء عينات من الشعب العراقي، وبعد المؤتمر الصحفي التقى عددًا من أعضاء الهيئة، وبعض القوى السياسية الموجودة في الساحة، وجرى الحديث في هذا اللقاء عن سبل الحل، وقدمت له الهيئة الوثيقة الأولى لحل شامل وكامل في العراق.
مضامين الوثيقة
أشارت الوثيقة إلى حلول رآها بعضهم آنذاك صعبة، على الرغم من أنّ الظروف كانت مناسبة لها؛ لأنه لم تكن هناك حتى ذلك الوقت إلا حكومة واحدة، هي حكومة مجلس الحكم، فضلًا عن التدخل الكبير للأمم المتحدة، ومن ثم فقد كانت هناك إمكانية لعمل شيء في العراق.
ودعت الوثيقة إلى خروج القوى المحتلة بجدولة زمنية، ومن ثم إشراف الأمم المتحدة والمجتمع الدولي على الأوضاع، وإرسال قوات دولية لتحل محل قوى الاحتلال التي تنسحب بالتدريج؛ وذلك للحيلولة دون حدوث فراغ أمني، ومن ثم تشكيل حكومة من المهنيين، تقوم بتسيير أمور البلاد، ومن ثم الإعداد لانتخابات بإشراف الأمم المتحدة، توصي بمجلس نواب متوازن يقوم بإعداد مسودة للدستور العراقي، ومن ثم انتخاب حكومة لسنتين أو ثلاث، وبعد ذلك تجري الأمور السياسية العادية
هذه هي الوثيقة التي ضمَنّ روحها الإبراهيمي في تقريره المقدم للأمم المتحدة، وعندما أعلنها أتُهم بتهم عدة.
والتزمت الهيئة وقتها بعدم الإعلان عمَّا قدمته للإبراهيمي، حتى لا تسبب له حرجًا، ولم نعلن عن تفاصيل الخطة إلا بعد أشهر.
سافر الأخضر الإبراهيمي ثم عاد مرة أخرى، واتصل بالمؤتمر التأسيسي العراقي الوطني المناهض للاحتلال، وهو الإطار الوطني الذي قامت القوى الوطنية بإعلان تأسيسه يوم (8/5/2004م)، وكان انتقالةً نوعية للعمل الوطني المناهض للاحتلال، فبدل أن يتصل الإبراهيمي بأطراف القوى المناهضة على حدة كما كان يفعل؛ التقاها جميعًا في إطار المؤتمر التأسيسي.
وقبل سفر الإبراهيمي التقاه وفد من القوى المشكلة للمؤتمر التأسيسي المناهض للاحتلال في مقر إقامته ببغداد، وكان الوفد يتكون من عدة شخصيات، وكنتُ ممثلًا للهيئة فيه، فتكلمنا مع الإبراهيمي بلسان الشيخ جواد الخالصي والأستاذ صبحي عبد الحميد وأخوة آخرين، وقلنا له بعبارة واضحة: نحن قوى مناهضة للاحتلال، لا نكفِّر أحدًا، ولا نخوِّن أحدًا؛ ولكننا نقول: إنّ الحل في العراق لابد أن يكون شاملًا بخروج قوات الاحتلال، على أساس الجدولة، وأن إعادة بناء الجيش العراقي على أسس وطنية بعيدة عن قضايا الطائفية والعنصرية هو أحد سبل الحل الجزئية لمن لا يريد أن يحل القضية بشكل متكامل؛ فقال: اطرحوا عليَّ أسماءً، وطرح عليه بعض أعضاء الوفد أسماءً لقيادات عراقية عسكرية كفوءة.
فأجاب الإبراهيمي قائلًا: هذه مقترحات وجيهة؛ سأدرسها وأعدكم بتحقيق قسم منها، وخرجنا من عنده، وبالكاد وصلنا إلى منازلنا وإذا بحكومة (إياد علاوي) تُعلن على خلاف ما وعد به بين الأمريكان الأخضر الإبراهيمي؛ حيث كان المقترح كما أخبرنا الإبراهيمي هو انتخاب جمعية وطنية لتختار حكومة لاحقًا.
وبعد أيام اتصل أحد اعضاء الوفد بالإبراهيمي، وهو الدكتور وميض عمر نظمي -رحمه الله- وقال له: ما الذي حدث يا أخ الأخضر؟ ألم نقدم لكم رؤية للحل كقوى مناهضة ومقاومة للاحتلال؟ فأجاب: إن الأمريكان خرجوا من الباب، ودخلوا من الشباك؟ !
وهكذا بدأت الحكومة الثانية في ظل الاحتلال، وحدثت مأساة الفلوجة، ثم جاءت الحكومة الثالثة، وجرى فيها تصعيد وتيرة الطائفية في العراق، ومن ثم عودة الجميع إلى طرح خيار الجدولة، ولا سيما بعد أن ناقش مجلس النواب الأمريكي هذا الخيار، وبدأ الكلام عنه في الشارع الأمريكي، ثم أخذنا نسمع به من ألسنة بعض الصحافيين والمتابعين؛ بل أن (الجدولة) أضحت مصطلحًا يستخدم في إطار بحث حل مشاكل أخرى، كجدولة حل الأزمة اللبنانية، وحل القضية كذا، وهكذا؛ وبذا انتقل مصطلح الجدولة من ثقافة سياسية عراقية، ليصبح ثقافة شائعة، بعد أن كان في البداية رؤية للهيئة قدمتها منذ وقت مبكر لحل الأزمة في العراق بعد احتلاله.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

شاهد ايضًا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى