أخبار الرافدين
علي شندب

بعد قمم جدّة وطهران “حرب كاريش” من لبنان إلى الخليج

عندما أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن مغادرة المنطقة والتوجه شرقًا، لم يكن يدر بخلده ومطابخ الإستراتيجيات الأمريكية وأجهزتها الاستخبارية، أن نظيره الروسي فلاديمير بوتين سيغزو أوكرانيا، وأن الحرب الروسية الأوكرانية ستحدث فضلًا عن اهتزازات دولية وإقليمية، أزمة غير مسبوقة على مستوى إمدادات الطاقة من غاز وغذاء.
مغادرة بايدن المنطقة باتجاه الصين، واكبها مواقف نافرة من الإدارة الأمريكية ضد بعض قادة المنطقة وخصوصًا السعودية ومصر، على خلفية مشجب حقوق الإنسان وفق الاستنسابية الابتزازية الأمريكية، مثل مقتل الصحفي جمال خاشقجي، والتحوّلات التي أطاحت حكم الإخوان في مصر.
فتطورات الحرب الأمريكية، الأوروبية، الروسية في أوكرانيا، وانعكاساتها صقيعًا باردًا على أوروبا بفعل فقدانها الغاز الروسي وسلال الغذاء، فضلًا عن تضخم غير مسبوق في الاقتصادين الأمريكي والأوروبي وانهيار اليورو، بعض عناصر العودة الاضطرارية لبايدن إلى المنطقة انطلاقًا من “إسرائيل” والسعودية.
في قمة جدّة، وجد بايدن منطقة متغيّرة، ومقاربات عربية خليجية توازن مصالحها الإقليمية والدولية بطريقة جديدة وحذرة في عالم متغير. يكفي أن عرب قمّة جدة لم ينساقوا وراء الولايات المتحدة وإملاءاتها، فلم ينخرطوا في العقوبات ضد روسيا التي لأجل تعويض غازها وحبوبها يمّم بايدن وجهه شطر المنطقة، ليستمع لمواقف لافتة خصوصًا من الرئيس المصري وأمير قطر حول الأمن القومي العربي والمعالجة الجذرية للقضية الفلسطينية من خلال حلّ الدولتين، الذي لم يحن أوانه بحسب ما تبلّغه رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس خلال لقاء بايدن “الشكلي” معه، بعد ساعات على توقيعه مع رئيس وزراء “إسرائيل” يائير لابيد “إعلان القدس للشراكة الإستراتيجية مع إسرائيل”.
باستثناء فتح السعودية أجوائها أمام الطيران الإسرائيلي الذي قايضه بايدن بالإعلان عن سحب القوات متعدّدة الجنسيّات من جزيرتي “تيران وصنافير”، لم يسجّل أي خرق مثل الإعلان عن التطبيع بين السعودية و”اسرائيل” أو تشكيل “ناتو عربي” من شأنه إدماج “إسرائيل” في المنطقة أمنيًا كما رُوّج قبل القمة، ونفاه بشكل واضح وزير خارجية السعودية، ما جعل بعض الإعلام الأمريكي وعدد من أعضاء الكونغرس يتحدثون عن الزيارة المحبطة لبايدن وعودته خالي الوفاض في ضوء إعلان ولي العهد السعودي عن رفع إنتاج النفط إلى 13 مليون برميل كحد أقصى، وهو الرفع الذي لا يؤمن سدّ فراغ الغاز الروسي. لكن إعلان بن سلمان اللافت كان في مدّ اليد لـ “الجارة إيران” شريطة الكفّ عن تدخلها في شؤون العرب الداخلية، ما عكس جهود رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي المهجوس بتكرار استهدافه بمُسيّرة غير مجهولة.
بهذا المعنى استفادت السعودية من عودة واشنطن التكتيكية لا الإستراتيجية لبعض ملفات المنطقة وليس للمنطقة. والفراغ الذي يخشى بايدن ملؤه من قبل روسيا والصين قد مُلىء فعليًا استثمارات كبيرة بين دول قمّة جدّه وبين روسيا والصين والهند.. فيما عبّأته إيران عسكريًا بأذرعها المعلومة وخصوصًا حزب الله.
وعلى إيقاع ضعف الأداء الأمريكي المستجد حيال المنطقة، انعكست مخرجات قمة جدّة إيجابًا على قمة طهران الثلاثية بين قادة إيران وروسيا وتركيا، والتي صُوّرت قبيل انعقادها بأنها للردّ على زيارة بايدن للمنطقة، ما عزّز نظرية الفصل التام بين قمتي جدّه وطهران، وبات من السذاجة وضعهما في مواجهة بعض. ما جعل قمة طهران أو “منصّة آستانا” تنصرف إلى مناقشة الملف السوري، سبب انعقادها المعلن، ويبدو أنها نجحت في إلغاء أو تأجيل الهجوم التركي على شمال سوريا، ومحاولة معالجة هواجسها الأمنية من الأحزاب الكردية التي تصنفها أنقرة إرهابية.
لكن المناقشات الهامة هي تلك التي حصلت في القمم الثنائية بين أضلاع القمة الثلاثية، وكان من نتائجها عقود نفطية وغازية كبيرة وطويلة الأمد بين إيران وتركيا وبين روسيا وايران، إضافة لتسهيل جزئي لوساطة إردوغان بشأن إمدادات الغذاء الأوكرانية التي ربط بوتين فك الحصار الكامل عن سفنها في البحر الأسود برفع العقوبات الأوروبية عن بلاده، وهذا ما سيتم مناقشته في اجتماعات إسطنبول بعد أيام.
وسط هذا السياق، العين مفتوحة على تطورات الموقف بين لبنان و “إسرائيل”، انطلاقًا من مفاوضات الترسيم التي كثٌر الكلام عن إيجابيات محتملة حيالها وأهمها كلام مدير الأمن اللبناني عباس إبراهيم. لكن واقع الحال يقول أنّ ملف الترسيم الذي تفاوض فيه الدولة اللبنانية نظريًا، بات عمليًا ومنذ إطلاق حزب الله مُسيّراته الثلاث التي أعقبها حسن نصرالله بمعادلة “ما بعد بعد كاريش” تحت إدارة روسيا وإيران.
والمدقق في مواقف تصاعدية لنصرالله في جلسة مغلقة “المطلوب أن تخضع إسرائيل وبدون خضوعها فلا غاز لأحد.. والحرب ليست حتمية، لكن تحضّروا لها جيدًا”، يستشعر أن الوضع مرشح للتفاقم عسكريًا، وأن المُسيّرات التذكيرية غير المسلحة التي يطلقها الحزب شبه يوميًا وتسقطها “إسرائيل”، مرشحة أن تتحول مسلّحة وتقود الوضع إلى حرب لا أحد يستطيع التكهن بمداها ومآلاتها.
فالحرب إذا ما وقعت جنوبي لبنان، فهي حتمًا لأسباب تتجاوز ملف الترسيم والحقوق اللبنانية، ما يجعل مقولة “ما بعد بعد كاريش” مطّاطة وذات جغرافية متحركة وواسعة تتجاوز فلسطين المحتلة باتجاه دول الخليج، سيّما إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن إيران قد نفذت عبر الحوثيين وباسمهم “بعد رفعهم عن لوائح الإرهاب الأمريكية”، عددًا من المناورات الحيّة بمُسيّرات مفخّخة وصواريخ مجنّحة استهدفت عدة مواقع نفطية في عدة مدن سعودية وإماراتية وأشعلت النيران فيها.
المنطقة بهذا المعنى، باتت في صلب الحرب، وجنوبي لبنان فتيل إشعالها المرجّح. فهل تخضع “إسرائيل”، أم تندلع الحرب؟
هذا ما يجيبنا عليه أيلول شهر الاستحقاقات الداهمة!

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى