أخبار الرافدين
علي شندب

الراعي شريك نصر الله في قبع القضاة

عندما حدّد البطريرك الماروني بشارة الراعي وعدّد مواصفاته لرئيس الجمهورية المقبل، كان يلقي نوعاً من الحرم الكنسي على غالبية المرشحين المتصدّرين للمشهد الرئاسوي. فأقوى وأبلغ رفض تلقاه الراعي، كان بيان التيار الوطني الحر برئاسة جبران باسيل، وممّا فيه “لا البطريرك.. ولا أي رجل دين آخر يحق له أن يحدّد مواصفات الرئيس.. وعندما تكون للبطريرك كتلة نيابية يمكنه عندها أن يصبح شريكاً في اختيار الرئيس الذي يراه مناسباً”.
وعندما أوقف الأمن العام اللبناني بأمر قضائي المطران موسى الحاج القادم من فلسطين المحتلة على معبر الناقورة الحدودي نحو ثماني ساعات استغرقتها عملية جرد وفرز محتويات 20 حقيبة بحوزته وتتضمن أدوية “إسرائيلية” ونحو أكثر من 600 ألف دولار مرسلة من عناصر “ميليشيا انطوان لحد” العميلة لإسرائيل الى ذويهم في لبنان، ثارت ثائرة البطريرك الماروني الذي اعتبر توقيف المطران الحاج إهانة شخصية له، ما دفعه الى المطالبة الملّحة بإعادة المصادرات كافة وتوزيع “الأمانات” على أصحابها.
أغلب الظن أن البطريرك جانب الصواب في مواقفه التي لأجل تزخيمها شعبوياً استحضر ما وصفه بصمود وتصدي البطاركة للعثمانيين، وهو الاستحضار الذي سبقه اليه الرئيس ميشال عون منذ سنوات، ويومها أحدث ردة فعل معلومة في مساجد طرابلس التي رفعت الأعلام التركية نكاية برئيس الجمهورية. جانب الصواب لأنه يخوض معركة ولاية الفقيه ووكيلها في لبنان وإذ به يصوّب على الخلافة العثمانية. وجانب الصواب عندما وضع نائبه على “الأراضي المقدّسة” فوق القانون والمساءلة. ما أوجب التساؤل، كيف لمتعالي أو متمرّد على القانون، أن يطالب بتطبيق القانون على غيره، أم بات تغنّيه بدولة القانون والعدالة والمساواة بمثابة معزوفة فلكلورية لا غير.
لكنّ النقطة الأبرز في مجانبة البطريرك الصواب مطالبته الملحّة “تنحية” مفوّض المحكمة العسكرية القاضي فادي عقيقي، الذي وصفه قائد القوات اللبنانية سمير جعجع بالخائن. موقف البطريرك هنا، ومن حيث درى أم لم يدر، متطابق حد النخاع مع مطلب حزب الله “قبع” المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت طارق بيطار. فهل نجح حزب الله في استدراج البطريرك الراعي لنفس الخطأ الذي وقع فيه حيال قبع المحقق بانفجار المرفأ؟ بداهة الجواب على هذا السؤال تقول بأن لحزب الله ما يخشاه من سلوك وأداء القاضي بيطار، فهل للراعي ما يخشاه من سلوك القاضي عقيقي؟
وبالعودة لمواصفات الراعي لرئيس الجمهورية المقبل، ورفض التيار الوطني الحر لها، فهذه المواصفات تهدف الى محاولة البطريرك القبض على ملف معركة رئاسة الجمهورية والتحكم بها، تماماً كما عوّل وسمير جعجع عبر الانتخابات النيابية على الفوز بأكثرية نيابية تقصي حزب الله عن التحكم بمفاصل الدولة. لكنّ مواقف الراعي الأخيرة كانت محل رفض شيعي ودرزي، ومحل صمت سنّي يستبطن الرفض أكثر من المواقفة. فقضية فلسطين ومقدسّاتها ورفض التطبيع هم الأكثر حضوراً ورسوخاً في الوجدان الجمعي للطائفة السنية الجريحة والمحبطة، وأغلب الظنّ أن الرفض الإسلامي الواسع لطروحات البطريرك الراعي ستنعكس خلافاً لمواصفاته ورغباته الرئاسية.
ملف المطران الحاج، كشف عبر المواقف البطريركية، أن اللبنانيين ليسوا شعباً واحداً، وأن هناك شعوباً لبنانية متساكنة في لبنان، وربما هذا ما تعمّد البطريرك الراعي لتظهيره استحضار موقف لسلفه البطريرك الراحل نصرالله صفير”اذا ما خيّرنا بين العيش المشترك والحرية، سوف نختار الحرية”، وفي هذا السياق يتطابق الراعي مع حزب الله الذي يختلف لبنانه عن لبنان البطريرك، ولو من موقع التضاد والتناقض، فمواقف الطرفين تجحّظ نقاء الصورة وليس معالمها فقط.
ثمّة نوع من الإجماع أن مواقف حزب الله وأداءه الإستعلائي والتمنيني للمسيحيين بحمايتهم من داعش، ولّدت لديهم شعوراً بالذمية وعقد العجز تجاه حزب الله دفع بعضهم حدّ تفضيل “إسرائيل” عليه. تفضيل متناسل من مواقف إيران الإستعدائية ضد بعض الدول العربية ما جعلها تندفع للتطبيع مع “إسرائيل” نكاية بايران. نكاية تتوسّل أي شيء لتجنّب الوقوع بين أنياب إيران، تلك التي تحكم مواقف البعض هنا وهناك.
لكنّ الذي يحكم موقف الدولة اللبنانية رغم الإنهيارات المتدرجة والمتوازية هو “قانون مقاطعة إسرائيل” الذي يعتبرها دولة عدوة، كما ويجرّم التطبيع والتعامل والتواصل معها، ولهذا كانت ردّة فعل المدعي العام التمييزي غسّان عويدات على المطالبين بتنحية القاضي عقيقي “عدّلوا القانون”. إنّه القانون الذي طوّعه حزب الله، واستخدمه قانونياً وفق مصلحته الاستنسابية لإلصاق أو فبركة تهمة العمالة لهذا، ولتبرئة ذاك ونزع العمالة عنه، بعدما أوغل في استخدام فزّاعة داعش هنا وهناك أيضاً.
بهذا المعنى نصّب حزب الله نفسه قاضياً لفحص الدمّ والإنتماء الوطني. وبهذا المعنى أيضاً فسلوك حزب الله الترهيبي والتهديدي ضد لبنانيين بعينهم، جرّأ المناهضين له وبينهم البطريرك الماروني ومن يلوذ به من الأحزاب والشخصيات المسيحية وغيرها، ودفعهم للتصويب على “فكرة المقاومة” ورفض التطبيع مع “إسرائيل” وتسخيفها.
وسط هذا السجال الهوياتي العميق حول مفاهيم العمالة والمقاومة والوطنية والسيادة وغيرهم، تبرز اللبنانات المتساكنة في جغرافية لبنان التي تثبت كثير من التطورات أن مقولة “لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه” باتت محل مراجعة عملية على ألسنة مسؤوليه. كما تبرز قضية “الموقوفين الإسلاميين” بأمر من المحكمة العسكرية إياها، وهم بدون محاكمة منذ سنوات، وهم الذين لم تشملهم مواقف البطريرك الراعي، وبسبب فيتو حزب الله والتيار الوطني الحر محرومين من استصدار قانون عفو عنهم، ربما لأن قانون العفو حصري بسمير جعجع ومن على وزنه، أو ربما لأنهم بنظر البعض أكثر خطراً على لبنان من المتهمين بالعمالة “لإسرائيل”؟

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى