أخبار الرافدين
علي شندب

ليلة القبض على مقتدى

لحظة زلزالية تلك التي أعلن فيها زعيم التيار الصدري اعتزاله النهائي للعمل السياسي. لحظة اهتزت فيها البنى السياسية والدستورية والأمنية في المنطقة الخضراء في العراق. تغريدة لافتة وضعت مقتدى الصدر وتياره في مهب التحولات العاصفة، التي جعلت من اعتزاله الخبر ما قبل الأول في الوكالات والفضائيات الدولية قبل العربية، ومن خارج السياق السياسي والأمني لتطورات المشهد العراقي الذي لم يستقر على حال منذ غزو العراق واحتلاله من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا عام 2003، ومن ثم تسليمه لجارته اللدودة إيران.
اعتزال الصدر نزل كالصاعقة على المعزول مقتدى نفسه أولاً، وعلى تياره الشعبي المتهم أحياناً كثيرة بالفوضى والغوغائية، وعلى الوسط السياسي العراقي الرسمي والحزبي والشعبي في العراق. وتناسلت التحليلات والتفسيرات وتوافقت وتناقضت في أبعاد اعتزال الصدر، وكذلك في التوقعات لخطوات الصدر اللاحقة. وصوّرت الكثير من هذه التحليلات الصدر بالرقم الصعب الذي يستحيل على متنفذي الإطار التنسيقي تجاوزه بأي حال من الأحوال، ولهذا نجد غالبية التحليلات لإعتزال الصدر أهملت قصداً أو عفواً أو جهلاً الأسباب الجوهرية التي أجبرته على الاعتزال.
ولعلّ المتفحص الجيد لبيان كاظم الحائري مرجع زعيم التيار الصدري، والوارث لموقع المرجع من أستاذه المرجع محمد باقر الصدر بعد وفاته، حيث بات الحائري مرجع الصدريين وعلى رأسهم مقتدى الصدر. يكتشف ببساطة كيف عرّى الحائري تلميذه مقتدى عندما خاطبه بلغة آمرة بقوله “على أبناء الشهـيدين الصدرين أن يعرفوا أنّ حبّ الشهيدين لا يكفي ما لم يقترن الإيمان بنهجهما بالعمل الصالح.. ومن يسعى لتفريق أبناء الشعب والمذهب باسم الشهيدين الصدرين أو يتصدّى للقيادة باسمهما وهو فاقد للاجتهاد أو لباقي الشرائط المشترطة في القيادة الشرعيّة فهو في الحقيقة، ليس صدريّاً مهما ادعى أو انتسب”.
وقد علّل الحائري بيان استقالته من التصدي لمهام المرجعية بأسباب صحية – حيث يتردّد منذ سنوات أن الرجل مصاب بداء الزهايمر- وهو الأمر غير المسبوق في تاريخ المرجعية الشيعية. وقد مهّد الحائري في البند الأول من توصياته لأتباعه ومريديه بضرورة “إطاعة قائد الثورة الإسلاميّة الولّي السيّد علي الخامنئي”. إنها الطاعة التي رفضها مقتدى الصدر في تغريدته الزلزالية التي اعتبر فيها أن النجف هي المقرّ الأكبر للمرجعية كما هو الحال دائما. وقد ذهب الصدر أبعد من ذلك عندما شكّك باعتزال الحائري واعتبره والبيان الذي أصدره بأنه “لم يكن من محض إرادته”. عبارة تفسيرها أنها نتيجة قرار فرضته إيران وانصاع له الحائري، وللدلالة على حجم الضغط الإيراني، أعلن الصدر اعتزاله سائلاً أتباعه الفاتحة والدعاء ترحماً عليه إن مات أو قتل. “الموت والقتل” لقمة تبريرية يعتمد عليها مقتدى الصدر في إغلاق أفواه أتباعه.
تغريدة الصدر الاعتزالية بدت أشبه ببركان نار يمتص كل معالم المنطقة الخضراء بوصفها مقر القيادة السياسية والأمنية للعراق الجديد وخصوصاً للفصائل الموالية لايران والتي تتحكم عبرهم بمفاصل القرار في العراق الجديد.
في اليوم الثاني لاعتزاله النهائي، أطل مقتدى الصدر بمؤتمر صحفي يطلب فيه من أتباعه إنهاء اعتصامهم وفك خيمهم والعودة الى بيوتهم، وأعلن أن اعتزاله هو التزام بأمر المرجع “الحائري”. إنه المرجع المأمور من إيران كما أوحى وشكك مقتدى. الذي عاد وصرّح بعظمة لسانه أنه مطأطأ الرأس، اي منكسر الروح والشكيمة ما دفعه لتقديم اعتذاره للشعب العراقي جرّاء أعمال العنف والقتل التي حصلت، وكمن يطلق النار على رجليه وجه زعيم التيار الصدري سهام نقده الى تياره لأنّه ارتكب أعمالاً عنفية.
في اللحظة الحرجة التي يتدرّج فيها مقتدى ويتتلمذ على يد معلمه الحائري، قطعت إيران الحبل بين الأستاذ وتلميذه. انها اللحظة التي نجحت فيها إيران في تظهير الصدر مجرد هاو في علوم الحياة والدين والسياسة، وانتهازي يستثمر بشكل سلبي في تراث والده محمد صادق الصدر، وبسبب أداءه الرديء والسيء طردته إيران من مدرسة الحائري التي يتعلم فيها، ومن ثم أقفلت المدرسة للأبد، وحولت تلاميذها الى مدرسة خامنئي، وجعلت مقتدى أشبه بمن يتسوّل متبن جديد له بعد استقالة خليفة أبيه.
هذا المشهد غير الكاريكاتوري يبين حجم تمكن إيران من مفاصل العراق سياسياً وأمنياً واقتصادياً، يتبدّى اليوم تمكنها من حوزة النجف إيّاها بعد سنوات من محاولات اختراقها بالكثير من الطلبة، ظاهرياً بهدف التدرج في حوزتها، وباطنياً بهدف السيطرة عليها واستتباعها والحاقها بـ “قم”، وذلك وسط صمت مطبق من قبل مرجعية النجف التي لطالما وصفت بالحوزة الساكتة.
تغوّل ايران في العراق الذي بلغ النجف وحوزتها، لم يقف عند حدود الشيعة، والشيعية السياسية التي خرجت من قمقمها على متن دبابات الاحتلال الأجنبي، بل هي وصلت حتى الى بيروت التي وصف سفير ايران فيها مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبداللطيف ريان بعد لقائه، بـ “مفتي أهل السنة” التي لم تكن زلة لسان، بل تعبيراً عن حقيقة المراحل التي قطعها مشروع ايران الدينوغرافي توازياً مع المراحل التي قطعتها المفاوضات مع الشيطان الأكبر حول المشروع النووي.
وسط هذه المشهدية من تغوّل ايران، تبقى العين مفتوحة على التطورات الأمنية في المنطقة الخضراء في بغداد وغيرها من المحافظات والمدن العراقية، ورصد مآلات الاهتزازات الأمنية بعد سحب مقتدى الصدر صواعق تفجيرها ملقياً باللوم على تياره الذي هدّده بالتبرؤ منه، تماماً كما سبق وألقى بلوم مشابه على ثورة تشرين، واتهامها بمغادرة السلمية باتجاه العنف دونما توجيه مثل هذا اللوم الى أنصاره وشركائه في العملية السياسية البائسة التي فوجى مقتدى الصدر بأنه غير قادرة على القفز من مركبها حتى ولو أراد ذلك، وليجد نفسه مسجوناً في قمقمها عارياً من كل أردية القيادة والاجتهاد وأشرطتها الشرطية.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى