أخبار الرافدين
د. فارس الخطاب

عندما يتولانا الفاسدون

تبدو قوى العملية السياسية البغيضة في العراق قد رتبت المشهد السياسي لتكون وزارة محمد شياع السوداني الأسرع تشكيلًا في تاريخ الوزارات العراقية منذ احتلال العراق عام 2003 فخلال فترة لم تتجاوز الأسبوعين، قدم السوداني كابينته الوزارية لمجلس النواب الذي تحول بوابة عبور لإرادات القوى السياسية المؤتمرة بإمرة طهران، في حين استمر مخاض السجالات والصراعات السياسية “المفتعلة” بين أطراف العملية السياسية لعام كامل للخروج بتفسير للحكومة التوافقية، بحكومة توافقية بامتياز.
تعتبر حكومة السوداني التاسعة في حكومات المنطقة الخضراء التي أسس لها المحتل الأمريكي وتركها في حضن الولي الفقيه وحرسه الثوري لتغير في ماهية العراق الديمغرافية والعقائدية والسياسية حسبما يخدم مصالح واشنطن وطهران.
ولا يختلف مكون عراقي عن سواه، أن هذه الحكومات جاءت بسُقِط القوم ليكونوا متنفذين ومتحكمين بكل تفاصيل إدارة الدولة، وهم كما وصفهم العراقيون عندما يقال لهم إن بغداد سقطت فيجيبون “بغداد لم تسقط، بل دخلها الساقطون”.
هؤلاء تفننوا في طرق الظهور، فبعضهم ارتدى عباءة الدين، وآخرون مصلحون، ومنهم من وسم نفسه بوسم “الخبير”، لكن كلهم كانوا وما زالوا يمارسون ذات العمليات: قتل روح المواطنة عند العراقيين، وتعميق حالة الفساد في النظام السياسي والمالي والأمني والاجتماعي والأخلاقي، باعتبارها أهدافًا مركزية للنظام الإيراني والإدارات الأمريكية المتعاقبة.
رب سائل يسأل، كيف حُل موضوع تشكيل الحكومة العراقية خلال بضعة أيام بعد كلمة ممثلة الأمين العام للأم المتحدة في العراق جينين هينيس بلاسخارت في الرابع من تشرين الأول التي عرت فيها بشكل مباشر ودون لبس كل أطراف العملية السياسية وأوصلت وصفًا لإرباب هذه العملية صغارًا وكبارًا لا يتحمل التأويل أو المواربة يتطابق تمامًا ومعنى “الفاسدين”، ويكفي أن تصف رأي الشعب العراقي بهم، وبعد سقوط نظام صدام حسين بتسعة عشر عامًا بـ “خيبة أمل الشعب قد وصلت إلى عنان السماء”.
لنرى بإيجاز ماذا حدث للعراق بعد أن تولى الفاسدون شؤونه، فعلى مستوى التعليم، وهو أهم أساسيات الدول في إعداد أجيالها، وبحسب المفوضية العليا لحقوق الإنسان، خرج العراق في عام 2021 من التصنيف العالمي لجودة التعليم بعد أن ظل يتراجع عاماً بعد آخر منذ عام 2003، وفي قطاع الزراعة نجح الفاسدون في تحويل العراق من بلد تمثل الزراعة فيه 18 في المائة من الناتج الاقتصادي المحلي عام 1995 إلى 1 في المائة عام 2022، بما أفضى إلى هجران الفلاحين للزراعة وبمساهمة فعالة من استهداف قلب الزراعة النابض دجلة والفرات. شرح مسؤول عراقي في وزارة الصناعة أن عدد المعامل والمصانع الحكومية العاملة في العراق لا يتعدى العشرين في المئة من مجموع المصانع الإنتاجية البالغة أكثر من ألف معمل ومصنع في مختلف القطاعات التي خرجت غالبيتها من الخدمة منذ الاحتلال الأمريكي للبلاد.
قطاع الصناعة في العراق أيضاً كان يمثل 23 في المائة من الناتج الإجمالي قبل عام 2003، وكان ناتج معامل الأدوية، والغزل والنسيج والألبسة، والأسمدة والفوسفات، ومصانع السكر، ومصانع الإسمنت والحديد الصلب، والصناعات الدقيقة، وأخرى للمواد الغذائية والألبان، قد حقق الاكتفاء الذاتي، أما الآن وفي عام 2022 تحديدًا فإن عدد المعامل والمصانع الحكومية العاملة في العراق لا يتعدى العشرين في المائة من مجموع المصانع الإنتاجية البالغة أكثر من ألف معمل ومصنع في مختلف القطاعات التي خرج معظمها من الخدمة منذ عام 2003.
في الملف الأمني بات العراق لسنوت عديدة هو الأسوأ على المستوى العالمي، وباتت ظواهر مثل الإخفاء القسري والتجاوزات على الإعلاميين واغتيال الناشطين السياسيين والحقوقيين والاختطاف والاغتصاب والتغيير الديمغرافي وسواها ممارسات راسخة في أبجدية حكومات المنطقة الخضراء. وعلى سبيل المثال تقدر “اللجنة الدولية للمفقودين” أن عدد المغيبين قسريًا في العراق يتراوح بين 250 ألفًا ومليون شخص وسط غياب تام لأي دور حكومي رسمي لإيجاد حلول لهذا الملف كما ترفض الحكومات المتعاقبة معاقبة الضباط والعناصر المتورطين في حالات الإخفاء “بحسب مركز جنيف الدولي للعدالة”.
في قطاعات الخدمات تبرز مشكلة الكهرباء في مقدمتها، وفي عام 2021، قال رئيس الوزراء السابق، مصطفى الكاظمي، إن العراق أنفق نحو 81 مليار دولار على قطاع الكهرباء، ويذكر تقرير لمعهد بروكينغز في الدوحة، أن العراق يخسر سنويا نحو 40 مليار دولار بسبب نقص إنتاج الطاقة، دون أن تحرك الحكومات المتعاقبة هذا الملف بشكل جدي وفاعل خلال 15 عاماً، وهو أمر غير مستغرب حقيقةً لسببن الأول أنها حكومات غير مؤهلة وغير نزيهة. والثاني، أن المستفيد من كل هذه المليارات هو نظام الملالي في إيران كونه المورد الرئيس للغاز المستخدم في توليد الطاقة في العراق فيما تحُرق مليارات الأمتار المكعبة من الغاز العراقي هباءً وعبثًا.
ما قيل عن الملفات الوارد ذكرها آنفًا يضاف لها الكثير من الملفات الأخرى كملف العلاقات الخارجية وملف العلاقة مع كردستان وكثير من القوانين التي سُنت إرضاءً لإيران، وملف المياه الذي تكاد تكون الحكومات العراقية المتعاقبة منذ عام 2003 هي النموذج الأوحد جغرافيًا وتاريخيًا في تهميشها التعامل معه فيما ترى هي قبل سواها ما يخلفه تردي ملف المياه في البيئة العراقية وزيادة نسبة التصحر والهجرة الداخلية.
كل ما قيل أو سيقال يرتبط بأس الخراب الممنهج في العراق ألا وهو الفساد، فهذا الملف تم الإعداد له من قبل الاحتلالين الأمريكي والإيراني كونه الأداة الأخطر في تخريب الشعوب والآفة الأصعب اجتثاثًا أو معالجةً بعد استشرائها، وما زال العالم يشارك في هذا الملف الخطير بالسماح للفاسدين بفتح حسابات رقمية أو وهمية بمليارات الدولارات دون السؤال الجدي عن مصدر هذه الأموال فيما يساءل مواطنوهم عند محاولتهم إيداع ألف دولار عن مصدره.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى