أخبار الرافدين
د. فارس الخطاب

“المغدورون” في العراق… تضليل الدولة

انتهت مرحلة جديدة من مراحل الضحك على الذقون والابتزاز الرسمي في العراق عندما طالب رئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي بتغيير اسم “المغيبين قسرياً” في المناطق المحررة “صلاح الدين، الأنبار، نينوى” إلى تسمية “المغدورين. نعم نحن الآن أمام موقف تجاه جريمة استمر كل سياسيي العراق بالمماطلة فيها واستثمارها انتخابيًا بعد تجييرها طائفياً ومناطقياً.
إن مراجعة بسيطة لتعريف التغييب القسري وفق القانون الدولي والذي ينص على أنه “توقيف شخص ما على يد مسؤولين في الدولة أو وكلاء للدولة، أو على يد أشخاص أو مجموعات تعمل بإذن من السلطات أو دعمها أو قبولها غير المعلن، وعدم الاعتراف بالتوقيف أو الإفصاح عن مكان الشخص أو حالته” تدل على أن المساعي النيابية والحكومية الهزيلة والخادعة، بل المتوافقة مع بعض القوى المسؤولة عن تغييب “غدر” الآلاف من الشباب العراقي الذين ينتمون لمكون بعينه أُريد له أن يكون الأضعف في خارطة العراق “الجديد”.
هذه المساعي بذاتها تحتاج إلى مساءلة قانونية فيما لو توافرت الظروف السياسية والأمنية والقضائية المناسبة لذلك، وقد تتجاوز حدود المسؤولية حكومات العراق وجلس نوابه إلى المنظمات الحقوقية وممثلي الأمين العام للأمم المتحدة في العراق الذين أعدوا تقارير يمكن وصفها بالمجاملة على حساب ما يزيد عن 25 ألف شاب تمت تصفيتهم على أيدي مليشيات وقوى طائفية حاقدة وملزمة بتنفيذ المشروع الإيراني في العراق، في حين تؤكد اللجنة الدولية للصليب الأحمر، أن العراق يمثل أكبر الدول من جهة أعداد الأشخاص المفقودين في العالم، وتقدّر اللجنة الدولية للمفقودين، التي تعمل بالشراكة مع الحكومة العراقية للمساعدة في استرداد المفقودين وتحديدهم، أن العدد قد يتراوح منذ عام 2014 حتى عام 2022 بين 250 ألفًا ومليون شخص، وهذا كله بعلم منظمة “هيومن رايتس ووتش. ”
لقد ناور المسؤولون الأمنيون والسياسيون طيلة ما يناهز الثماني سنوات في ملف المغيبين؛ تارة يخرج من يصرح أن المغيبين مفقودون وأخرى يقول آخر إن أغلبية المغيبين توفوا في العمليات العسكرية ضد تنظيم داعش الإرهابي، وهناك أيضاً من تعامل بشكل لا أخلاقي ولا إنساني مع ذوي المغدورين على أقل تقدير عدما نفى وجود مثل هذا الملف.
اعتراف الحلبوسي رغم تأخره كثيراً، لكنه كشف حقيقة هذا الملف حيث قطع الشك باليقين على الأقل بالنسبة لعائلات المفقودين الذين عانوا مآسي وآلام انتظار عودة أبنائهم طيلة سنين طوال، حين قال “يجب أن نُصارح الناس بحقيقتهم (المغيبين)، ونغير اسمهم أولاً إلى المغدورين وليس المغيبين: مغدورين يعني فارقوا الحياة”، واتهم الحكومات العراقية منذ 2014 حتى 2022 بـ”التضليل” بقوله “تنصف الدولة ذوي المغدورين عبر شمول عائلاتهم بقانون ضحايا الإرهاب، وبالتعويض، أما الاستمرار بتضليل أسرهم منذ 2014 ولغاية الآن، فغير صحيح… غُيبوا وتم اغتيالهم في تلك الفترة”، مضيفاً: “لأكون أكثر جرأة مع الناس الذين خسروا ذويهم وأبناءهم لا ينبغي أن يُستخدم الملف للقدح السياسي ومنح أهلهم أملاً بعودتهم، فهذا غير صحيح”.
أنا شخصياً لا أعرف من أين أتت ساعة الشجاعة السياسية والصراحة المباشرة لرئيس مجلس النواب العراقي ليكشف عورات النظام السياسي في العراق ليس فقط في ملف المغيبين “المغدورين” بل تعداها إلى ملف التغيير الديمغرافي الذي يجري بشكل منظم ومنسق دون أن تمتلك الدولة بكل مؤسساتها القدرة وأحياناً الرغبة بإيقافه؛ نعم، فقد ضرب على أهم أوتار هذا الملف وأكثرها وضوحاً وأبشعها ظلماً عندما تحدث عن منطقة “جرف الصخر” بمحافظة بابل التي أخليت من سكانها البالغ عددهم أكثر من ستين ألف مواطن بالكامل على أيدي مليشيات معروفة للجميع وقال “لا يستطيع أحد من قوى تحالف الدولة بسنته وشيعته دخول منطقة جرف الصخر، لذلك لا معنى للحديث عن عودة سكانها”. وأسباب عدم قدرة أحد على دخول “جرف الصخر” كثيرة منها أنها تحوي مخازن أسلحة إيرانية رئيسة، وسجونًا سرية حتى اعتبرتها إيران قاعدة متقدمة ضمن جبهة ما تطلق عليه الميلشيات ” ذاتها بـ “خط المقاومة “.
وسط تصريح محمد الحلبوسي المهم والحاسم، يبدو أن رئيس وزراء العراق محمد شياع السوداني مازال خارج سرب المعلومات الدقيقة أو أنه حلقة في سلسلة التضليل التي مارسها أسلافه، وقد يكون من المضحك المبكي أنه في تصريح بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان قال “إن العراق أصبح اليوم ساحة خصبة ومتاحة لعمل المجتمع المدني، ولعمل الناشطين والمدافعين عن حقوق الإنسان، وهذا ثمرة التغيير، وتبني الفهم الحقيقي لمعايير حقوق الإنسان”.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى