أخبار الرافدين
علي شندب

الطائف بين التقيّة الأمريكية والبراغماتية الحزبلّاهية

الطائف، ذلك الاتفاق الذي أنهى برعاية عربية ودولية الحرب الأهلية بتشابكاتها الإقليمية والدولية، سيّما وأنه كان مرفوقاً بترسانة عسكرية عربية ودولية شكل الجيش العربي السوري بالتحالف مع الحركة الوطنية وحركة أمل رأس حربتها للإطاحة برئيس الحكومة العسكرية المتمرد ميشال عون عن قصر بعبدا. ثم تواطأ الممسكون بتلابيب السلطة المستولدة من رحم الطائف فيما بينهم على تجويفه ومنع استكمال ورشته في الإصلاحات السياسية والاقتصادية المختلفة وسط تراجع من رعاة الطائف العرب والأجانب عن متابعة واستكمال دورهم في تنفيذ بنود الاتفاق العريضة والتفصيلية وإيكالهم الرعاية للدولة السورية التي كان لها قراءتها المتمايزة عن نظرائها فضلاً عن بصمتها على المشهد اللبناني والإقليمي.
وقد تركت العملية العسكرية ضد ميشال عون الكثير من الآثار، فوّلدت ما سُمّي بالإحباط في الشارع المسيحي والذي عُبّر عنه بمقاطعة انتخابات ما بعد الطائف، ما استنبت نواباً مسيحيين بعشرات الأصوات، بعيداً عن أي حيثية شعبية. ثم جرت مياه كثيرة ساهمت في تأمين إعادة انخراط المسيحيين بقيادة البطريرك الراحل نصرالله صفير في الحياة السياسية.
تزامناً مع تواطؤ زعماء الطائف، والمحبطين منه. بدأ التخطيط للثأر من الطائف ينمو خصوصاً في الشارع المسيحي الذي وجد اثنين من أبرز قياداته وهما ميشال عون وخصمه سمير جعجع بين المنفى والسجن. الأول بسبب تذرعه بـ “فاصلة” أراد تضمينها في اتفاق الطائف، والثاني بسبب ارتكابه جرائم أدين بها منها اغتياله لرئيس وزراء لبنان رشيد كرامي.
توازياً مع ما تقدم أعلاه، كان حزب الله المنصرف كلياً الى مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، يبتلع ويقضم البيئة الشيعية ويتمدّد في البيئات الاجتماعية والمناطقية الأخرى، حيث إن العداء لـ “إسرائيل” متأصل لدى غالبية اللبنانيين. وبدا زهد حزب الله بالسلطة وابتعاده عنها، يضاعف من رصيده الشعبي لدى اللبنانيين عامة، حتى وقع زلزال اغتيال رفيق الحريري المستولد من رحم الزلزال الأكبر المتمثل باغتيال العراق واحتلاله وغزوه عام 2003.
والحقيقة ان اغتيال الحريري، كان محاولة لاغتيال مرحلة الطائف وصنّاعه. فلبنان بعد اغتيال الحريري هو بدون شك ليس كما قبله. إنّه الاغتيال الذي أطاح بترتيبات عربية واقليمية ودولية كبرى، لمصلحة اندفاعة إيرانية جديدة منطلقة عبر منصّات التخادم بين الولايات المتحدة وإيران وانطلاقاً من غزو العراق إيّاه الذي لم يزل العرب خاصة والمنطقة عامة، يعيشون آثار تداعياته وارتداداته المتواصلة والمتناسلة من باب المندب الى حقل كاريش.
ثم جاء توقيع الترسيم بين لبنان و”اسرائيل”، والذي لم يعد سرّاً أنه نتيجة اتفاق إيراني أميركي لعبت فيه قطر دور الوسيط ما أمّن لها امتلاك استثمار حصة غاز بروم الروسية من حقول الترسيم جنوباً. انه الاتفاق الذي أرادته واشنطن للتخفيف من وطأة بوتين على أنابيب الطاقة، وكمقدمة ضرورية لتوقيع الإتفاق النووي مع إيران، سيّما وأنّه يسحب كل ذرائع “إسرائيل” في معارضة الاتفاق النووي بعد توقيعها للترسيم مع إيران عبر وكلائها في لبنان.
بدون شك لبنان ما بعد الترسيم يختلف عمّا قبله. فالكلمة ما فوق العليا في لبنان الترسيم تكرّست لحزب الله ولم تعد بقوة مسيّراته، إنّما بقوة الترسيم الحائز على كل الضمانات البايدنية. فليس تفصيلاً أن تتحدث السفيرة الأمريكية في بيروت دوروثي شيا عن براغماتية حزب الله.. إنّها البراغماتية التي تبات مع “التقية” الأمريكية في سرير واحد. إنّهما البراغماتية والتقيّة اللذان تزاوجا بواسطة المأذون القطري وبمعزل عن السعودية.
توازياً مع إرهاصات الترسيم برزت سويسرا كراعية لحوار بين مجموعات لبنانية تردّد أنه حول مستقبل لبنان ونظامه السياسي، أي حول لبنان ما بعد الترسيم الذي ينبغي أن يستوعب “دستورياً” مسيّرات حزب الله العارية والمفخخة، وصواريخه الدقيقة والمجنّحة. إنه الحوار الذي أثار ريبة السعودية وجهات لبنانية عدة. فمنذ متى تلعب سويسرا مثل هذه الأدوار الصعبة دون توافقها مع الأطراف الإقليمية والدولية المعنية؟ أم أنّ سويسرا خرجت من حيادها لتكون قفازاً غير حريري للولايات المتحدة بوصفها ضمانة الترسيم وصمّام أمانه الوحيد؟
بهذا المعنى تبدو الوجهة الاستراتيجية لمنتدى الطائف الذي نظّمه سفير السعودية في بيروت وليد بخاري، ليس تقويضها للحيادية السويسرانية، بقدر تصويبها على التقية الأمريكية، سيّما وأن البخاري الذي جحّظ كثيراً نفي أي نية أو توجه لفرنسا بعقد مؤتمر حول الطائف، لم ينف مثل هذا الأمر عن واشنطن.
إذا كان اتفاق الترسيم مقدمة استراتيجية لتوقيع الاتفاق النووي، فإن فوز تحالف الليكود في “الانتخابات الإسرائيلية” مع ما تضمّنه من تعهد بنيامين نتنياهو وتهديده بإلغاء الترسيم مع لبنان الذي لا يمكن أن يكتمل دون فوز الجمهوريين في الانتخابات الأمريكية، وعندها علينا ألا نغفل أن ممزّق الاتفاق النووي دونالد ترامب قد يمزق براغماتية بايدن وانجازه التاريخي في الترسيم، وعندها يصبح الكلام عن البراغماتية والتقية وهم وسراب.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى