أخبار الرافدين
كرم نعمة

لعنة الفلوجة

كان عليّ أن استعيد جملة راسل بيكر المراسل السابق لصحيفة نيويورك تايمز، بقوله “لا يوجد صحفيون يغطّون البيت الأبيض، بل يوجد صحفيون يغطيهم البيت الأبيض”. بينما أستمع للمعونة الفريدة التي قدمها مراسل صحفي للرئيس الأمريكي جو بايدن، لينتبه متأخرا أن مدينة خيرسون الأوكرانية هي بالتأكيد غير مدينة الفلوجة العراقية.
حضرت الفلوجة في المؤتمر الصحفي للرئيس الأمريكي وهو يتحدث عن روسيا ونتائج الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة، كما يريد التاريخ لهذه المدينة إلا تغادر مدونته الوطنية بوصفها درة في تاج العراق الوطني، مثلما كانت البصرة مدينة المدن عصية على الاحتلال الإيراني، وهكذا بقيت الموصل مدينة الكرام مع كل الدمار الذي لحق بها.
ليست زلة لسان ما نطق به بايدن، كما اعتبرته وسائل الاعلام الأمريكية، بل لأن القدر الإعلامي أراد إعادة الفلوجة إلى مدونة الاخبار الدولية بوصفها المدينة التي بقيت متسقة مع عراقيتها بينما مدن البلاد تستفيق آنذاك من هول الصدمة، وهي تسأل نفسها منذ عشرين عاما “هل حقا انهارت البلاد تحت وقع الاحتلال؟”.
بقي هذا السؤال قائما ولم يجد العراقيون ولا النخبة منهم صانعة الرأي إجابة تدافع فيها عن أفكارها!
هناك مسافة تتسع لآلاف الكيلو مترات بين الفلوجة العراقية وخيرسون الأوكرانية التي تسيطر عليها روسيا. هذا أمر مفهوم، لكن بايدن قال “أعتقد أن السياق هو ما إذا كانوا سينسحبون من الفلوجة أم لا. أو أعني…، من خيرسون، مدينة خيرسون…” بعد أن نبهه أحد المراسلين الصحفيين بالقول خيرسون.
كان التنبيه ثمينا لفرط أن يفيق الرئيس الأمريكي من غيبوبته المزمنة، والأثمن منه بالنسبة للفلوجة التي لن تغادر ذاكرة التاريخ الوطني العراقي، مثلما ستبقى لعنتها تلاحق عناصر المارينز. كما لن تمحى قصيدة معروف عبد الغني الرصافي عنها. بينما يُراد للفلوجة اليوم من قبل هوامش السياسيين وتجار الطائفية والمكوّن “تبا لهم جميعا” أن تتحول إلى مدينة خانعة، مقيّدة بالمحاصصة، راضية بكل الذي يجري من ابتذال سياسي.
في يوم ما أخذني أصدقائي الفلوجيين إلى مدينتهم أنا “الجندي الصحفي بينهم” القادم من بغداد التي لا تبعد غير بضع وقت عنها!، في نوع من الاحتفاء المفرط بكرم الطعام والود.
أتذكر وقفت على الجسر الحديدي العتيق، حيث المدينة الصغيرة تلتحف الفرات تحت جلدها، وبقيت أردد مع نفسي تلك القصيدة التي استذكرها في يوم ما الصحفي الرائد رشيد الرماحي الذي زاملنا في مجلة “الرافدين” ونشر تقريرا مطولا مع صورة الملك فيصل الأول وجواره نوري السعيد يفتتحون الجسر آنذاك: على خد الفرات تنام نشوى/ إلى رأد الضحى وعلى الضفاف/ فتخطب ودها بغداد/ لما تداعب من جدائلها السوافي/ إذا ضبحت لمجد عاديات فليس لغيرها تلد القوافي/ فيا فلوجة الشرفاء تيهي/ بما قد قال فيك الرصافي.
لازالت أتذكر عندما نشر الرماحي “أبو رشا” ذلك الاستذكار التاريخي عن الفلوجة، تصاعد الجدل بين الزملاء في المجلة عن نسب القصيدة للرصافي. كان الرماحي يدافع بإصرار قل نظيره، بينما محمد الجزائري يشاكسه بجدل ومظهر عارف يترقب أين تنتهي الأمور!
بعدها بعقود، ومن مغتربي اللندني، كان يقف صديقي المراسل الصحفي “…” على خراب المدينة وهو ينقل لنا على شاشة التلفاز وجعها آثر الدمار الذي لحق بها من قبل قوات الاحتلال الأمريكي، بعد أن اكتشفوا أن تلك المدينة الصغيرة كسرت غطرستهم مبكرا.
اليوم تعود الفلوجة الى صدارة الاخبار “ومتى غابت؟” أثر زلة لسان بايدن، بينما التاريخ يترقب الوقت الذي يتيح له أن يضع الدرة في تاجها الوطني، مثلما قلد من قبل الفاو في مدينة المدن وبقيت عصية على المحتلين.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى