أخبار الرافدين
كرم نعمة

تراجيديا راديكالية في عرض السوداني السمج

لم يتسن لمغنية الروك الأمريكية كورتني لوف أن زارت بغداد، لكنها استعادتها كأسوأ مثال للعيش في العالم عندما حوصرت سيارتها من قبل متظاهرين في باريس، فكتبت متهكمة على تويتر “هل هذه فرنسا؟ أشعر بأمان أكثر في بغداد”.
حضرت بغداد كأردأ مثال لدى هذه المغنية، بينما مر على هذه المدينة 1260 عاما في وقت تصنفها المؤشرات الاستطلاعية كأسوأ مكان للعيش في العالم وأهلها يعانون من تراجع مخيف في مؤشر السعادة، وتضع دراسات مؤسسة غالوب الأمريكية للأبحاث بغداد ضمن أكثر المدن التي تعاني من مشاعر سلبية حول العالم. فهناك أربعة آلاف مجمع عشوائي في عموم العراق، تضم 522 ألف وحدة سكنية، ربعها في العاصمة بغداد، وبواقع 1022 عشوائية.
وتقوم دراسات قياس مؤشر السعادة على طرح أسئلة للسكان عن نظرتهم لمستوى سعادتهم مع مقارنة نتائج الاستطلاع بإجمالي الناتج المحلي في البلاد وتقويمات تتعلق بمستوى التضامن والحرية الفردية والفساد لإعطاء علامة إجمالية لكل بلد.
مقابل ذلك الانهيار الحسي والمزاجي الإنساني والمكاني لأهل بغداد، ترتفع فيها أسعار العقارات بدرجة مخيفة ويمكن معادلة ذلك بنفس أسعار العقارات في لندن! فكيف يمكن تفسير ذلك عندما يتعلق الحال بأهمية العيش والخدمات والرفاهية ما بين بغداد ولندن؟
فالإنسان المتعافي شرط للاقتصاد المتعافي، والمدن تمتلك أهميتها عندما يرتفع مستوى المعيشة فيها، لكن تلك المعادلة مكسورة في بغداد، فهناك أدنى مستوى للمعيشة والخدمات يقابله جنوح في أسعار العقارات!
لذلك عصي على التفسير اعتلال صحة المواطن وانهيار بنية مدينة بغداد وتردي خدماتها مع ارتفاع أثمان عقارتها، إلا بالعودة إلى مؤشر الفساد وسلطة الطبقة الاوليغارشية التي تعيد كتابة تاريخ المدينة وتحويلها إلى مجرد ماكنة فساد دوارة بيد ذوو العقول الضحلة. عبر تحويل سوق العقارات الى مستنقع آسن للفساد وتبييض الأموال المسروقة من خزينة الدولة.
المال هو الكلمة الفعالة هنا، بينما القيم الوطنية تصبح كتلة طينية يتم تشكيلها وفق مشيئة المذهب والطائفة، وهكذا يصبح المال المحدد القوي لصناعة السياسة أكثر من كونه مجرّد دخل. ذلك ما جسده العرض السمج لرئيس الوزراء محمد شياع السوداني وسط أكداس من الأوراق النقدية، لم يحدث ولن يتكرر في أردأ انهيار للقانون حتى مع رجل شرطة في دول العصابات والمافيات.
العرض المبتذل للسوداني مع أكداس النقود الفاقدة لقيمتها الاعتبارية، جزء من المشهد، ثمّة مساحة غائبة هي بالأساس المعبّر بجدارة عن عصر النخب المنهار في بغداد، بينما المساحة السياسية والطائفية تقدّم نفسها بكل وضاعة كبديل شرعي للنخب البغدادية.
يمكن لأي عراقي ممارسة دور الناقد الانطباعي لعرض السوداني المسرحي مع الأموال عندما يتعلق الأمر بلصوص الدولة في المنطقة الخضراء بطريقة: استحوذنا على مال البلاد ونتحكم بما هو موجود في البنوك أيضا، لدينا ذاكرة أفضل لسرد وقائع التاريخ الدينية وفق مشيئة المذهب، المنازل والقصور كانت جاهزة كي نسكن فيها، ولم نضف إليها قطعة حجر واحدة، نحن أهم وأحق في الاستحواذ على المشهد برمته.
هكذا تكون النخبة في العصر السياسي والطائفي الرث تعبيرا عن الكراهية السياسية لعصرنا.
لقد ترك شكسبير نبوءته الحافلة بالحكمة والشرور والكرامة والعزيمة والنذالة، لكنه لن يكون هادئا لو تسنى له كتابة التاريخ المعاصر للقيم، سيجد بلاد النهرين الشاحبين مثالا لما أصاب الإنسان من تصحر قيمي، وبدت الكرامة في أوطأ درجاتها تاركة سلّم القيم إلى الغرائز والهويات الضيقة الطاردة للوطنية.
ستكون هناك أكثر من عاصفة على المسرح الشكسبيري العراقي، لكن أيا من تلك العواصف لن تستطيع مغادرة سوق الغبار السياسي والطائفي والاجتماعي الضحل، سيكون للضحالة موقعها عندما ترتقي العقول القبورية المراكز العليا بوصفهم سادة القوم، سيفقد الكلام العراقي حكمته إن لم يضف إليه الطائفيون شرعية الخرافة، وهكذا يصبح الوقار والحكمة والكرامة والوطنية كلمات عتيقة مرتبطة بالماضي ويجب اجتثاثها ومنعها عن جيل الألفية، كي لا تصبح الوطنية مثاله، فثمة أمثلة أكثر أهمية اليوم تبدأ بالطائفية ولا تنتهي باللصوصية والاستعراض الأجوف أمام أكداس من النقود.
المسرح العراقي اليوم شكسبيري في تراجيديا راديكالية تكشف مقدمتها عرض السوداني السمج، وتجسد المثال الأكثر خطورة في المأساة العراقية المتواصلة بإدارة أبنائه الذين فتحوا الباب لغيرهم وقبلوا السير في الطريق الأعمى.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى