أخبار الرافدين
كرم نعمة

ضغينة لندن لباريس أشد من دبلوماسية كرة القدم

يمكن اعتبار تغريدات التحدي بين الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، بمثابة دبلوماسية كرة القدم التي لا يعتد بها في العمل السياسي، لكن عندما يتعلق الأمر بالتاريخ بين أحفاد شكسبير ومولير، هناك كراهية مضمرة لا يمكن تجاوزها. وهناك سأم متبادل بين البلدين واتهامات بالكلام المزدوج وانتقاد لا يتوارى في أوقات إلا لكي يعود أكثر احتداما.
غرد ماكرون قبل ساعات من مباراة المنتخبين في مونديال قطر متحديا سوناك “عزيزي، أتطلع بفارغ الصبر الى المباراة هذا المساء. إذا فاز الزرق (سيفوزون)، أرجو أن تتمنوا لنا حظا سعيدا في نصف النهائي… موافق؟”.
ورد عليه رئيس الوزراء البريطاني “آمل ألا اضطر الى فعل ذلك (…) أتطلع أن تناصروا الأسود الثلاثة في الجولة المقبلة”.
ستفقد المؤشرات السياسية أهميتها عند البناء على فوز فرنسا على إنجلترا، كما توقع وآمل ماكرون، فهناك أكثر بكثير من هذا الفوز لا يخفي التوتر المضمر بين البلدين سواء هدأت التوترات على بحر المانش أم فتح ملفها التاريخي على طاولتي البلدين الجارين والمتباعدين عبر التاريخ.
الكلام عن تبنى حكومة سوناك الجديدة لهجة أكثر تصالحية حيال فرنسا. لا يصمد طويلا في أول اختبار بين البلدين، سيتم استعادة تاريخ العداء والكراهية بين بريطانيا وفرنسا. وعندها لا تنفع دبلوماسية كرة القدم والثرثرة المهذبة من ماكرون وما يقابلها من سوناك.
يمكن استعادة حزمة طويلة من الكلام غير الدبلوماسي عندما يتعلق الحال بالعلاقة بين الأمتين الفرنسية والبريطانية. صحيح أن البلدين أكثر من جارين وفق مفاهيم الجغرافيا التي لا تتغير، وصحيح جدا أنهما شعرا بالمسؤولية الاقتصادية العالية في قرار الربط في القنال الإنجليزي منذ عقود، لكن مع كل تعطل مرور بنفق المانش بين المسؤولين في البلدين، يتم استحضار ضغينة الخلاف الثقافي الفرنسي – البريطاني. هناك صداقة وتضامن، لكن لا يمكن أن تغيب أفكار الحرب التاريخية والتنافس أيضا.
في حقيقة الأمر، العلاقات البريطانية – الفرنسية ليست طبيعية ولم تكن كذلك وإن بدت هادئة في أوقات ما. كانت مثقلة بالكراهية قبل مباراة كرة القدم في مونديال قطر وستبقى كذلك بعد فوز فرنسا وحتى لو خسرت.
فهل من بيننا من يمكن له أن ينسى التصريح الشهير للرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك “ماذا حصلنا من بريطانيا، غير الطعام اللاصحي”.
وعندما شاركا الرئيس الفرنسي وزوجته في مراسم جنازة الملكة اليزابيث الثانية، تناست وسائل الاعلام البريطانية المناسبة الحزينة واتهمت ماكرون بعدم اللياقة الدبلوماسية بارتداء لباس مبتذل هو وزوجته في مناسبة رسمية، يتمثل بحذاء رياضي، أطلقت عليه (Basketgate) التي تعني فضيحة الحذاء الرياضي، الأمر الذي دفعه إلى الرد دفاعا عن نفسه، متذرعا بأن الموضة آخر رمز للتميز الفرنسي. وقال الناطق باسمه إن الأناقة الباريسية جزء من قوتنا الناعمة، وعليه فإننا نتوقع من الرئيس وزوجته الترويج لها.
ستجد المعادلة أكثر حنقا في الجانب البريطاني مقابل ذريعة شيراك عن الطعام البريطاني غير الصحي وموضة ماكرون وزوجته. الحرب تصل غالبا إلى اللغتين، فكل طرف يضع أسلحته في أكف موليير وشكسبير ليجعلاهما يتصارعان. هناك كأس مسمومة على طاولة القنال البريطاني – الفرنسي الجميع يعرف بوجودها، ويحرض على أخذ رشفة منها كلما فتح التاريخ عينه على العلاقة بين البلدين. حتى عندما تشاجر صيادو الأسماك الفرنسيين والبريطانيين انبرت الأصوات المتشنجة تستحضر الحرب الثقافية.
كل ذلك يجعل التاريخ حاضرا بشكل دائم كلما اختلف صيادو الأسماك على حدود الصيد في بحر المانش، وكلما تمت الاستعارة من موليير مقابل ما كتبه شكسبير، وكلما اختلفت الأرقام عن عدد الناطقين بالفرنسية مقابل الإنجليزية، ولا ينتهي الأمر بالتغريدات اللطيفة في دبلوماسية كرة القدم بين ماكرون وسوناك.
عندما سألت صديقي البريطاني العارف بالتاريخ بين البلدين، عزا الأمر إلى الأنفة البريطانية في علاقتها مع فرنسا. لكن على ماذا الأنفة إذا كان التاريخ يقول إن المصلحة يجب أن تكون في سفح الكأس المسموم بين البلدين وليس التحريض على ارتشافه. البلدان بمثابة توأمين، عضوان دائمان في مجلس الأمن، دولتان نوويتان لديهما اقتصاد متشابه وعدد سكان متقارب، البريطانيون يعشقون باريس والفرنسيون لا يخفون سعادتهم بلندن، وقطار يورو ستار يوصل بين العاصمتين خلال ساعتين لا أكثر، فيمكن لأي بريطاني أن يقضي أمسيته والعودة في نفس المساء، مثلما يمكن للفرنسي التمتع بهذه الفرصة أيضا في لندن.
والقواعد المالية بين البلدين بعد بريكست بحاجة إلى أكثر من تعديل من دون استحضار الضغينة التاريخية، فلا يمكن لبريطانيا مغادرة أوروبيتها وتكون أمريكية مثلا، مثلما لا يمكن لفرنسا بوصفها أحد أكبر قادة الاتحاد الأوروبي إغلاق عينها عن الجغرافيا التي تربطها بالجارة الخارجة عن الإجماع الأوروبي.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى