أخبار الرافدين
طلعت رميح

أمريكا فقدت شروط قيادة العالم

تصور الدعاية الأمريكية ما يجري من صراع دولي، باعتباره نتاج محاولة الصين وروسيا تغيير النظام الدولي المستقر، وأنها والغرب من تسعى للحفاظ على استقرار العالم والتنمية المستدامة.
وبعيدًا عن أن هذا النظام الدولي ليس إلا حالة فرضتها الولايات المتحدة والغرب على العالم بقوة السلاح وعبر الترويج لنموذجها الحضاري، لتحقيق مصالحها على حساب الدول الأخرى. بل حتى بعيدًا عن أن كلا من الصين وروسيا تسعيان لتحقيق مصالح استعمارية، فالعنوان الأهم الآن أن الولايات المتحدة، فقدت شروط قيادة العالم، وأن قدرتها السابقة على إخضاع العالم، بالقوة الصلبة والناعمة، قد تراجعت. وهذا هو جوهر المأزق الحال في العالم.
يقول التأريخ الاستراتيجي للعالم إن الدولة التي تقود العالم أو تسيطر عليه، يجب أن يتوفر لها بريق حضاري، هذا البريق لا يجذب الناس لتقليد نموذجها أو للرضوخ لها “القابلية للاستعمار” فقط، بل هو ما “يعمي أعين الناس عن جرائمها وأعمال القتل والتشريد التي تمارسها قوتها العسكرية خلال فرض سيطرتها”.
ويقول التاريخ الاستراتيجي للعالم، إن الدولة حين تصبح مسيطرة، تسعى لمنع أية دولة أخرى من الخروج على القواعد التي تفرضها كنظام دولي، بل تستخدم القوة استباقيًا لمنع أية دولة من الوصول إلى درجة من القوة، تهدد سطوتها.
وهذا تحديدًا ما تقوله مبادئ الأمن الاستراتيجي للولايات المتحدة، إذ تعتبر كل نمو أو تطور أية دولة على أساس مستقل، تهديدًا لها، يجب أن تتصدى له.
لكن الحاصل الآن، أن الولايات المتحدة هي من فقدت شروط قيادتها وسيطرتها. فقدت بريقها الحضارية. كما فقدت قدرتها على فرض سيطرتها بالقوة على العالم أيضًا.
والحق أن الولايات المتحدة ما كان لها أن تستمر طويلًا في السيطرة على العالم.
لقد وصلت لقيادة العالم لسبب ضعف الدول الأخرى، التي أنهكت بعضها البعض خلال الحرب العالمية الثانية. وهي وجدت طريقًا ممهدًا لها عبر الحلول محل بريطانيا، لغة وحضارة واستعمارًا. كانت تقوى وسط حطام الدول الأخرى. ولكنها طورت قدرتها العسكرية على نحو مذهل.
كما شكلت منظومة قوة ناعمة بالحريات التي منحتها لمواطنيها وهي ناهضة، ومن خلال بناء نظامها السياسي المستقر، وإنجازاتها العلمية والتكنولوجية وبما وفرته للعلماء الذين اجتذبتهم من مختلف الدول الأخرى.
والحاصل الآن، أن الولايات المتحدة فقدت بريقها، وأن بريقها الحضاري انطفأ وصار يرسل إشارات عن حالة ارتداد حضاري، ليس فقط بقرارات مجنونة مثل قرار جعل زواج المثليين قانونيًا، وإباحة إزهاق الأرواح عبر الإجهاض، وغيرها من القضايا القيمية.
ولكن أيضًا، لأنها لم تعد عنوانًا للتعايش في داخلها، إذ باتت جرائم العنصرية مادة يومية داخلها، ولا للحياة الآمنة، إذ تعج البلاد بالمذابح التي تجري لمن يسيرون في الشوارع أو يرتادون الأسواق.
كما انكشف عداؤها لحريات الشعوب بمساندتها للطغاة، وتوسعت جرائمها لتشمل كل أنحاء العالم، من آسيا حيث القصف النووي لليابان والجرائم في فيتنام وكوريا وتايلاند، إلى العالم الإسلامي “أفغانستان والعراق” إلى الجرائم في أمريكا اللاتينية وإفريقيا. بل حتى في أوروبا.
وبانتهاء البريق واللمعان الحضاري باتت القوة العسكرية الأمريكية عارية ولم يعد هناك ما يغطي على أعمال القتل والاحتلال واستنزاف ثروات الشعوب.
وجديد المرحلة الأخيرة أيضًا، أن تراجعت قدرتها على السيطرة بالقوة العسكرية بنمو قوى أخرى صارت قادرة على تشكيل نموذج قوة مواز لها ولانكشاف ضعف قواتها أمام المقاومتين العراقية والأفغانية.
ويمكن القول إن غزو واحتلال أفغانستان والعراق واشتعال المقاومة ضدها كان المعطى الكاشف لهذا التراجع الذي نرى العالم يتحدث عنه ويعتبره حقيقة كلية في إدارة الصراع الدولي الراهن.
الآن يحاول جو بايدن استعادة البريق الأمريكي الذي انطفأ، واستعادة السطوة العسكرية.
رأيناه يخوض المعركة ضد روسيا والصين، تحت عنوان حشد الدول والمجتمعات الديموقراطية ضد الدول المستبدة. ورأينا العودة لفكرة البريق التكنولوجي بإطلاق صواريخ نحو القمر وتجارب لصواريخ حربية، وبالإعلان عن اكتشافات في مجال الطاقة، والإلحاح على مواجهة التحولات الخطرة للمناخ. لكن لا هذا ولا غيره قادر على إعادة البريق الأمريكي أو امتلاك القوة المسيطرة.
فالحضارات المتراجعة التي بدأت دورة الشيخوخة والاحتضار، لا يمكن إصلاحها إذ تفقد روحها. كما أن هناك من صار منافسًا فتيًا لها.
الحضارات المتراجعة، تكون قد فقدت روحها ودورة الحركة الإيجابية في داخلها، فلا تنتج تطورًا وتقدمًا. وستفقد قدرتها على التجدد كلما حاولت إعادة تلميع نفسها أو استعادة عافيتها، فالأحداث التي جرت تعيدها القهقري، وفي ذلك يقال اتسع الخرق على الراتق.
والولايات المتحدة حين تحاول استعادة النهوض الاقتصادي عبر حزمة مالية لمواجهة التضخم، تجد نفسها على أبواب حرب تجارية مع حليفتها أوروبا التي وصفت القادم بالحرب المدمرة. وحين ترفع الفائدة، تجد عملتها ترتفع، وتصبح صادراتها أقل، كما تصبح مسؤولة عن زيادة الفقر ففي العالم. وهي حين تعلن عن منجزات عسكرية من طائرات وصواريخ، تكشف للعالم كيف سبقها الآخرون. وهي حين تفرض عقوبات على دول كبرى مثل الصين وروسيا، تعزل نفسها وتقصم ظهر العولمة التي حققت لها السيطرة على العالم.
أما حين تطرح أفكارًا، فنجدها لا تقدم للعالم سوى ما يجعلها نموذجًا منبوذًا.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى