أخبار الرافدين
د. رافع الفلاحي

حرس “الخراب” العراقي

لم يكن تأسيس الحشد الشعبي باعتباره إطارًا جامعًا للميليشيات في العراق بعد فتوى ما يعرف بالجهاد الكفائي التي أطلقتها مرجعية النجف في الثالث عشر من حزيران عام 2014، خطوة مرتجلة فرضتها ظروف المواجهة مع “داعش”
وقد استطاع الأخير السيطرة على أربع محافظات عراقية “نينوى، صلاح الدين، ديالى والأنبار” إثر هروب قوات الجيش والقوى الأمنية منها بعد مواجهة سريعة و”غريبة” مع عدد قليل من مقاتلي “داعش”.
فخطوة تأسيس ذلك الإطار الجامع للميليشيات، كان قد أعد لها مسبقًا في طهران ربما قبل احتلال العراق، إذ أن أي قراءة لكل الأحداث والمعطيات التي طبعت الأيام المحصورة بين احتلال العراق عام 2003 وبين تأريخ الإعلان عن تأسيس الحشد الشعبي عام 2014، ستقود إلى نتيجة واحدة تتلخص في أن قرار قيام إطار جامع للميليشيات لم يكن قرار “صدفة” فرضته الظروف، ولعل النظر إلى طبيعة العملية السياسية ستؤكد هذه النتيجة، حيث الأسس التي تقوم عليها والقوى الرئيسة التي تتحكم بها بالاعتماد على ما تمتلكه من ميليشيات تستند إليها في التعبير عن قوتها وقدراتها في إمكانية إزاحة “بعض” الآخرين أو حتى سحقهم، باعتبار أن هذه الميليشيات المسلحة “مملوكة” بالأساس لإيران، فهي من أسستها وسلحتها ودربتها… وهي من تحدد لها واجباتها والتوقيتات وفقًا لحاجة طهران “أولًا” ولرؤيتها التكتيكية والاستراتيجية لما يجب أن يكون عليه العراق وكيفية السيطرة عليه “ثانيًا”. وما الأفعال الإجرامية التي ارتكبتها الميليشيات منذ أول يوم للاحتلال الأمريكي للعراق إلا دليلًا واضحًا على طبيعة الواجبات التي نفذتها وتنفذها هذه الميليشيات. فقد تولت عمليات استهداف كل العقول والقدرات العلمية والثقافية والاجتماعية العراقية وكل ما يمكن أن تكون أداة لنهوض القوة مرة أخرى في الجسد العراقي المثخن بالجراح “بفعل الاحتلال الغاشم وحجم ما استعمل من أسلحة ومقذوفات ضده”، فضلًا عن الجرائم التي ارتكبتها هذه الميليشيات ضد مكون أساسي من مكونات الشعب العراقي “السنة” تنفيذًا لسياسة التغيير الديمغرافي وإضعاف قدرة المجتمع العراقي في تجميع قدراته وتأمين قيام قوة رافضة للتمزيق والفوضى والسلب والنهب وتسويق ثقافات الطائفية والفساد والولاء للخارج والقبول بالاحتلال واعتباره فعلًا حسنًا ومصدرًا لتحرير وبداية لنهوض وازدهار.
أن كل تلك الأفعال وغيرها، كانت تحمل المؤشرات الواضحة عن توجهات تصب في فكرة أن تكون هذه الميليشيات هي الحاكم للعراق، ولكونها أداة إيرانية “صرفة” فأن طهران بالتالي هي الحاكم الفعلي للعراق وهي من ترسم سياساته وتضع من يناسب تلك السياسات وينفذها على كراسي الحكم، ومن هنا كانت تترسخ حقيقة أن إيران هي من تصنع الحكومات في العراق وبيدها مفاتيح كل المناصب والتوجهات، وما حديث رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض في آب من العام 2021 أثناء استقبال القائد العام للحرس الثوري الإيراني حسين سلامي له في طهران، إلا تعبيرًا عن طبيعة الحكم في العراق وتصريفاته، إذ قال “إن القوى السياسية الحقيقية في العراق، هي القوى الميدانية”. في إشارة واضحة إلى القوى التي تمتلك ميليشيات تفرض الحال المطلوب بقوة السلاح، وأن لا قيمة لأي قوى سياسية خارج هذه المنظومة، حتى وإن كانت “شيعية” ولا قيمة لأي متظاهرين وقوى شبابية، خاصة تلك التي تعادي إيران، حتى وإن كانوا قبل ذلك يطلقون عليها تسمية الحاضن للأحزاب والقوى الشيعية.
ولم يفت على الفياض أن يعبر في ذلك اللقاء مع قائد الحرس الثوري الإيراني سلامي، عن اعجابه وفخره بنموذج الحرس الثوري الإيراني، مؤكدًا أن من الواجب تأسيس الحرس الثوري العراقي من خلال استنساخ تجربة الحرس الثوري الإيراني.
ولعل قول الفياض هذا، ورقة في كتاب بصفحات عديدة وضعت طهران فيه جملة من تعليمات “واجبة التنفيذ” تتولها الحكومات التي أسستها في العراق عقب الاحتلال، وفقًا لمنهج زمني محدد. فهذا حيدر العبادي الذي تولى منصب رئاسة الوزراء في الفترة 2014-2018 يصدر من تلك التعليمات أمرًا اعتبر فيه “الحشد” تشكيلًا عسكريًا مستقلًا، فيما كان زعيم مليشيا بدر هادي العامري يقول في تلك الأثناء “وهو بالتأكيد كان يقرأ في نفس كتاب التعليمات الإيراني” خلال حضوره استعراضًا عسكريًا لميليشياته في تكريت “قوات بدر التي تشكل العمود الفقري للحشد الشعبي، أصبحت أكبر قوة في العراق، وهي أقوى من الجيش العراقي”. مشيرًا في ذلك إلى أن الورقة العسكرية بكل تفاصيلها هي بيد ميليشيا الحشد وليست بيد الجيش، وبالتالي فأن وجود وزارة للدفاع يتولاها وزير “سني” وفقًا لمحاصصة الحكم الطائفية، لا تعني شيئًا ولا تشكل أي ثقل في القرار العسكري العراقي.
إن كتاب التعليمات الإيراني لتصريفات الحكم في العراق الذي يرسخ الحكم بيد الميليشيات، كان بمقدمات بعضها سري وبعضها الآخر معلن ومنها حديث قائد الحرس الثوري الإيراني الأسبق محسن رفيق دوست الذي عبر عن استعداد طهران في بناء الحرس الثوري العراقي، وقد تبعه في ذلك قائد “مقر خاتم الأنبياء المركزي” التابع للحرس الثوري اللواء غلام علي رشيد قائلًا “إن قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني أنشأ عددًا من الجيوش خارج إيران بدعم من قيادة الحرس الثوري وقوات الجيش وهيئة الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، ومن بين هذه الجيوش، حزب الله في لبنان وجماعة الحوثي في اليمن والحشد الشعبي في العراق”.
فيما كان قائد بارز آخر في الحرس الثوري الإيراني العميد حسين همدان الذي قتل في سوريا عام 2015 يتحدث بعد أيام من صدور فتوى الجهاد الكفائي وتشكيل الحشد كإطار جامع للميليشيات في حزيران عام 2014، قائلا “بعد أن أسست إيران حرسًا ثوريًا في كل من سوريا ولبنان فإن الأبن الثالث للثورة الإسلامية الإيرانية سيولد في العراق”. في إشارة واضحة لميليشيا الحشد والتخطيط لجعلها حرسًا ثوريًا عراقيًا.
وهكذا، فإن قيام الحشد في العراق لم يكن وليد صدفة أو لضغط ظروف طارئة، بل كان جزءًا من مخطط معد له سلفًا ووضعت لأجله تعليمات وتوجيهات وتوقيتات، فضلًا عن ترتيبات لصناعة ظروف وأوضاع وأحداث تتسق مع تنفيذ الخطوات وتسوغها. بل تسوقها على أنها ضرورة ملحة، ولعل حدث سيطرة “داعش” على أربع مدن عراقية في حزيران عام 2014 بتلك الكيفية التي انهزمت فيها أكثر من أربع فرق عسكرية حكومية والعديد من القوى الأمنية تاركين أسلحتهم ومعداتهم “الأمريكية الحديثة” لتستولي عليها “داعش” من دون قتال، من تلك الأحداث التي يراها الكثير من المراقبين على أنها مصنوعة بإتقان لتبرير وتسويق قيام الحشد كإطار شرعي جامع للميليشيات، وبالتالي منحها الفرصة المناسبة “إيرانيًا وأمريكيًا” للسيطرة وفرض نفسها كقوة “محررة وحامية” كما يدعي أرباب العملية السياسية بما يفرض على الجميع استحقاقات عليهم تأديتها وفي مقدمتها تأمين تصدر هذه الميليشيات للمشهد العراقي، والقيام بأي أفعال من دون السماح لأي طرف في توجيه أي سؤال لها أو مطالبتها بالتوضيح. لذلك لا يوجد من يجرؤ على سؤال الحشد عن أسباب سيطرته على مدينة جرف الصخر “مثلًا” وطرد أكثر من مائة ألف من سكانها من منازلهم ومزارعهم ومصالحهم بذريعة محاربة داعش، والقرار بعدم عودتهم إليها رغم مرور أكثر من خمسة أعوام على الإعلان الرسمي بالقضاء على داعش والانتهاء منها.
ومثل ذلك إنشاء ميليشيا الحشد “حزامًا” يحيط ببغداد على غرار ما قام به حزب الله في جنوب لبنان، وطرد أهل تلك المناطق والاستيلاء على كل ممتلكاتهم، وتسخير العديد من وسائل الإعلام المملوكة لهم أو الحكومية لتسويق هذه الأفعال على أنها جزء من خطط أمنية لمواجهة الإرهاب وتأمين الدولة العراقية وحفظ أمن المجتمع، ولهم أيضًا العشرات من النواب والمسؤولين في كل القطاعات الحكومية الذين يتولون تأمين التشريعات والقوانين التي تصب في مصلحة هذه الميليشيات وتوجهاتها، ويمنعون إمكانية النيل منهم من قبل أي طرف ومن ذلك قضية المطالبة الشعبية ببيان قتلة المتظاهرين في ثورة تشرين في كل المدن العراقية، خاصة في بغداد والناصرية وتقديمهم للعدالة فضلًا عن الإمساك بمن يقومون بعمليات الاغتيال والخطف ضد الناشطين، الذين يتولون القصف بين حين وآخر لمناطق عديدة ومنها حتى المنطقة الخضراء، وكلها عمليات تطال الاتهامات فيها ميليشيا الحشد الشعبي.
إن فرض ميليشيا الحشد نفسها كقوة أساسية “إن لم تكن القوة الوحيدة” قد مكنها أيضًا من السيطرة على الكثير من مفاصل الدولة الاقتصادية ومنها المنافذ الحدودية التي تدر عليها ملايين الدولارات “إن لم تكن مليارات الدولارات” كما وتجعلها تتحكم بدخول وخروج البضائع ومنها الأسلحة والمخدرات وغيرها من الممنوعات من دون رقيب ولا حسيب.
ولم يكن قرار رئيس الوزراء الحالي محمد شياع السوداني بتأسيس شركة عامة لميليشيا الحشد الشعبي باسم “المهندس” وبرأسمال قدره 68.5 مليون دولار، إلا جزءًا من واجبه في تنفيذ “تعليمات طهران” كحال من سبقوه في هذا المنصب، وبما يجعل هذه الميليشيات تفرض سيطرتها الكاملة على الاقتصاد العراقي. وفي ذلك استنساخ كامل لتجربة الحرس الثوري والباسيج الإيراني في الهيمنة على الاقتصاد الإيراني، فتأسيس هذه الشركة يعني عدم قدرة أي شركة أخرى على منافستها في القطاع الخاص وبالتالي السيطرة على جميع الفرص الاستثمارية، فضلًا عن شرعنة فرض الإتاوات على الجميع وتسهيل عمليات الابتزاز التي تمارسها الميليشيات في استحصال الأموال والممتلكات من دون وجه شرعي ولا قانوني، وبما يضيف لها قدرات اقتصادية ومالية كبيرة، إضافة إلى ما كانت تجنيه من سيطرتها على أرصفة عديدة في الموانئ العراقية وعلى مطارات ومنافذ حدودية وتجارات مختلفة بينها تجارة الأدوية والبشر والأعضاء والمخدرات وغير ذلك الكثير.
الأمر الذي يجعل أمر الإعلان عن تأسيس “حرس الخراب العراقي” مجرد وقت فالتجربة الإيرانية يجب أن تفرض نفسها… ولا عزاء للعراقيين.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى