أخبار الرافدين
علي شندب

عقدة أمريكا من الفلوجة العراقية وطرابلس الليبية

يبدو أن قلّة الأخلاق ليست حالة عابرة لدى بعض ساسة الولايات المتحدة، بل حالة مرضية متأصلة في الإدارات الأمريكية المتعاقبة. فرغم اعتراف وزير الخارجية الأمريكي كولن باول في عهد رئيسه جورج دبليو بوش بأنّ الأدلّة التي استندت عليها واشنطن لغزو العراق واحتلاله كانت كاذبة، وتعمل وزيرة الدفاع الفرنسية السابقة ميشال آليو ماري اليوم على كشف زيفها بشهادة الأقمار الصناعية الفرنسية. وهو ما سبق وقاله بلغة شبه اعتذارية رئيس وزراء بريطانيا السابق وشريك بوش الصغير في غزو العراق توني بلير. اعتراف باول وشبه اعتذار بلير لم يعبرّا عن التوجّهات العميقة لبلديهما. فمبررات الغزو والاحتلال هي ما يقرره دهاقنة “المجمّع الصناعي العسكري” في واشنطن والذي يمتلك أسطولًا إعلاميًا بامتدادات عربية وغربية، لتسويق أسلحته ومنتجاته العسكرية ولتسويق مبرّرات الغزو والاحتلال والدمار هنا وهناك وأينما تقتضيه المصلحة الاستراتيجية العليا.
آخر ابداعات المجمّع الصناعي العسكري الأمريكي، إعلان وزير البحرية الأمريكية كارلوس ديل تورو الثلاثاء الماضي، عن إطلاق اسم “الفلوجة” على “السفينة البرمائية الأمريكية الجديدة، أول قطعة تحمل اسم معركة بعد أحداث 11 أحداث سبتمبر، وتزن 45 ألف طن وبلغ قيمة عقدها 2.4 مليار دولار.
وفي سياق تسويق الاسم الجديد “يو إس إس الفلوجة”، أسهب ديل تورو في استذكار معركتي الفلوجة الأولى والثانية عام 2004، عادًّا أن التسمية تهدف لتخليد ذكرى جنود المارينز الذين قتلوا في الفلوجة، قائلاً “مع مقتل أكثر من 100 من قوات التحالف وجرح 600. تعد عملية الفلوجة أكثر الاشتباكات دموية في حرب العراق وأشرس قتال شارك فيه مشاة البحرية الأمريكية منذ معركة هيو سيتي في حرب فيتنام”.
وكإعلامي شارك في تغطية وقائع غزو واحتلال العراق، وشاهد بالعين والأذن المجرّدتين من كل تحريف أو تضليل أو تشويه، كيف تظهّرت نخوة وشجاعة أبناء ومقاتلي عشائر الفلوجة للذود عن بلادهم وعرضهم وليس عن مدينة المساجد فقط، ووثق مع كثير من الإعلاميين الانتهاكات ما بعد الجسيمة لحقوق الانسان في الفلوجة والتي ارتكبتها قوات الاحتلال ومرتزقتها من جماعة الـ “بلاك ووتر” الذين علّقت بعض أجسادهم على جسر الفلوجة، وكانت هذه نقطة التحوّل على مستوى المقاومة العراقية على امتداد العراق، وباتت الفلوجة جذوة المقاومة وبوصلتها ونبضها الذي لا يلين.
وبهذا المعنى كان الانتقام من الفلوجة في معركتي عام 2004 بحجم دورها في إيذاء وإيلام القوات الأمريكية وهي ترى النيران تشتعل في أرتالها المتقاطرة، والقذائف تدك مواقعها، وطائرات الشينوك والأباتشي تتساقط في محيطها. وبهذا المعنى أيضًا باتت الفلوجة فاعلًا رئيسًا في المشهد العراقي برمته، والندّ والنظير الاستراتيجي الوطني للمنطقة الخضراء وساكنيها الجدد.
لم يكن تدمير الفلوجة وقصفها بالأسلحة المحرمة دوليًا في محاولة لجعلها أثرًا بعد عين، الحدّ الأقصى والأقسى للانتقام منها دون التمكن من إخضاعها. ويبدو أن المرارة التي أذاقتها الفلوجة لقوات الاحتلال وخصوصاً الآلاف من معاقي وجرحى حروب الفلوجة خاصة والعراق عامة، قد تحوّلت إلى حالة نفسية مستدامة لدى القيادات العسكرية الأمريكية التي يعبّر قرار وزير بحريتها عن حجم تلك المرارة التي يريد أن يحوّلها إلى نصر على الأطفال والشيوخ في حي نزّال وحي الضباط والجولان وحتى محيط كباب حجي حسين والمساجد المقابلة له، وبينهما المستشفى ومبنى القائمقامية وصولًا إلى الطريق السريع الذي يربط بغداد بسوريا والأردن.
رغم عبثية تاريخ الغزو العسكري الأمريكي القائم على عبثية أدلة كاذبة تبريرًا لغزو العراق واحتلاله، غالبًا ما يحاول كتّاب هذا التاريخ تحويل انتكاساتهم وهزائمهم إلى نصر يتم تخليده بمسميات مثل اسم “الفلوجة” التي باتت عقدة لا مجرد لعنة، ولهذا وجب ما هو أكبر من التخليد من وجهة نظر وزير المارينز.
قصّة الشعوب وخاصة العرب مع المارينز بوصفهم آلة الغزو الأمريكية الضاربة عبر البحار والمحيطات، ضاربة في أعماق التاريخ الذي تتحدث صفحاته المعلومة وغير المطوية، عن إحراق بحارة طرابلس الليبية بقيادة “يوسف باشا القره مللي” للبارجة الأمريكية “فيلادلفيا” عام 1801 لأنّ البحرية الأمريكية رفضت دفع “الإتاوة” التي تدفعها السفن الأوروبية لحكام طرابلس لقاء عبورها بسلام عباب البحر المتوسط.
ولمن يزور العاصمة الليبية طرابلس، وقلعتها البحرية التي كان يبسط “الطرابلسيون القرملليون” سلطتهم وسلطانهم على البحر الأبيض المتوسط من خلالها، عليه أن يرفع عينيه باتجاه تلك السارية الخرسانية الضخمة المنتصبة في ساحة الشهداء أو الساحة الخضراء، ليشاهد مجسّم البارجة الأمريكية “فيلادلفيا”، المعركة التي خلدّها الليبيون عبر الزمن، وعدّوها من أبرز أيقونات الجهاد الليبي ضد الاستعمار والاحتلال الأجنبي.
إحراق البارجة فيلادلفيا، يعد من أهم انتكاسات البحرية الأمريكية التي خلّدت ذكراها بطريقة لا تسقط بتقادم الزمن، فوضعتها ليومنا هذا، في صدر “نشيد المارينز” الذي يقول في مقدمته دون أن يتوقف الكثير عند معانيه وأبعاده العميقة “من هضاب مونتيزوما إلى شواطئ طرابلس.. في البر، في البحر، في الجو، خضنا معارك الوطن”.
إطلاق الأسماء والمسميات ليست حالة عبثية في العقيدة العسكرية العدوانية، لكنه حالة شبه عبثية وغير مفهومة في بعض مدن وعواصم بلاد العرب التي تطلق على بعض شوارعها وميادينها أسماء غزاتها والأمثلة كثيرة.
أمثلة تتطلب إنعاش ذاكرة وزير البحرية الأمريكية الذي قال “تعد عملية الفلوجة أكثر الاشتباكات دموية في حرب العراق وأشرس قتال شاركت فيه مشاة البحرية الأمريكية منذ معركة هيو سيتي في حرب فيتنام”. ويبدو أن التاريخ، أو وظيفة اللحظة عند تورو توقفا أمام حرب فيتنام، لتجنب استذكار محرقة البارجة فيلادلفيا التي ربما تقوم إحدى حكومات طرابلس المشابهة لحكومات المنطقة الخضراء بتفكيكها وتسليمها إلى واشنطن -كما سلمت مواطنها بوعجيلة مسعود المريمي بملف لوكربي المغلق قانونيا- التي تتشابه بطولات بحارتها مع بطولات الفلوجة حدّ التطابق في الانتقام التدميري من العراق وليبيا رغم سعي “المتأمركين” وتنافسهم مع “المتأيرنين” على تغطية قرص الشمس بالغربال.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى