أخبار الرافدين
تقارير الرافدينحكومات الفساد في العراق

انتحال صفة طبيب في بغداد يفتح الباب للحديث عن تردي القطاع الصحي

نخب وكفاءات طبية تحمل الحكومة مسؤولية انهيار الواقع الصحي وارتداداته الاقتصادية في ظل هجرة الأطباء والمرضى على حد سواء إلى الخارج بحثًا عن أنظمة طبية أفضل.

بغداد – الرافدين

أثار مشهد إلقاء القبض على شخص انتحل صفة طبيب خلال تجوله في ردهات مستشفى مدينة الطب في بغداد الجدل على منصات التواصل الاجتماعي وعلامات الاستفهام حول مدى الانهيار الذي يشهده القطاع الصحي في البلاد.
وتضاربت الأنباء حول الحادثة حينما أكد مصدر أمني في بادئ الأمر أن الشاب الذي انتحل صفة طبيب في مدينة الطب اعترف بأنه يرتدي زي الأطباء من أجل الدخول لرؤية شخص يعرفه داخل المستشفى في تناقض لما جاء في الإعلان الرسمي لوزارة الصحة الذي صدر لاحقًا.
وقالت وزارة الصحة في بيان لها، إن “الأجهزة الأمنية اعتقلت الشخص المنتحل لصفة طبيب بمدينة الطب، في ذات اللحظة التي ادعى فيها أنه طبيب لاتخاذ الاجراءات القانونية بحقه”.
ونفت الوزارة الحديث المتداول حول انتحال هذا الشخص صفة طبيب منذ عدة أشهر بعد أن وصفت تلك المعلومات بـ “غير الصحيحة ولا تمت للواقع بصلة” في محاولة للملمة هذه الفضيحة كما عبر عراقيون على منصات التواصل الاجتماعي.
وعرض برنامج صوتكم الذي تبثه قناة “الرافدين” صورًا ملتقطة من كاميرا مراقبة من داخل مستشفى مدينة الطب للحظة إلقاء القبض على الشخص المنتحل لصفة الطبيب والذي بينت الصور استخدامه سماعات طبية لإضفاء المزيد من الثقة على شخصيته الوهمية.
وفتحت الحادثة التي جاءت متزامنة مع الإعلان عن وفاة سيدة ثلاثينية بسبب خطأ طبي في بغداد الباب للحديث عن مدى الانهيار في القطاع الصحي في العراق في ظل الإهمال وغياب الرقابة فضلًا عن غياب الرادع والمساءلة القانوينة التي منحت بدورها الأمان لممارسة مثل تلك الأفعال.


ولعب الإفلات من العقاب والفساد دورًا رئيسًا في هذا الانهيار المستمر للقطاع الصحي في العراق الذي يعد من الدول الأكثر فسادًا بحسب منظمة “الشفافية الدولية”.
وكان موقع “نومبيو” الذي يعنى بالمستوى المعيشي لدول العالم وجودة الرعاية الصحية، قد صنف العراق منتصف شهر أيار الماضي بالمرتبة الثالثة كأسوأ دولة في مجال الرعاية الصحية الأولية بالعالم.
وذكر الموقع في تقريره لعام 2023 أن “العراق جاء بالمرتبة الثالثة بأسوأ رعاية صحية بالعالم من أصل 94 دولة مدرجة بالجدول، حيث حصل على 43.46 نقطة فقط متقدمًا على فنزويلا وبنغلاديش”.
وسارعت وزارة الصحة كعادتها بوصف التصنيف الأخير لموقع نومبيو بأنه “مجاف للحقيقة ولا يستند لمعايير علمية”.
وأشارت الوزارة على لسان المتحدث الرسمي باسمها الدكتور سيف البدر إلى ضرورة النظر لمجمل الخدمات الصحية في البلاد والصعوبات التي واجهتها، لا سيما الضرر الكبير الذي لحق بالمنشآت الصحية خلال الحرب على تنظيم داعش بين عامي 2014 و2017 في العديد من المحافظات.
ولم يخف البدر مواجهة العراق لبعض المشكلات في القطاع الصحي، إلا أنه أكد كذلك أن خدمات الرعاية الصحية بمختلف مستوياتها شهدت تطورًا كبيرًا على حد وصفه.

الدكتور رعد عبد الوهاب شاكر: إعادة هـيكلة التعليم والتدريب الطبي والتمريضي في العراق إلى ما كان عليه يحتاج إلى سنين وجهد ومثابرة

وسبق وأن وصف طبيب الأعصاب العراقي البروفيسور رعد عبد الوهاب شاكر، الواقع الصحي في العراق بالحالة المزرية.
وقال الدكتور رعد الذي سبق وأن منحه ملك بريطانيا تشارلز الثالث وسام الإمبراطورية اعترافًا بالخدمات الجليلة التي قدمها لطب الأعصاب العالمي، “أن إعادة هـيكلة التعليم والتدريب الطبي والتمريضي على الأقل إلى ما كان عليه يحتاج إلى سنين وجهد ومثابرة.
وأشار إلى تجربة زملائه وأصدقائه الذين تقلدوا منصب وزارة الصحة في حكومات بعد عام 2003 مثل علاء العلوان وجعفر علاوي، وعدم توصلهم إلى نتائج ملموسة في تحسين الواقع الصحي.
ولا يتفق خبير الصحة العامة الدكتور علي العنبوري بدوره مع ما أبداه المتحدث باسم وزارة الصحة من تفائل حينما وصف تصنيف موقع “نومبيو” بـ “المنصف إلى حد ما”، وأن مستوى خدمات الرعاية الصحية الأولية متدن جدًا.
وكشف العنبوري عن أن 50 بالمائة من المرضى العراقيين يتلقون العلاج في القطاع الخاص على الرغم من وجود خدمات الرعاية الصحية الأولية، مما يدل على أن هذه الخدمات العامة لا تستجيب لحاجة المواطن العراقي.
واضاف أن “خدمات الرعاية الصحية الأولية لا تقدم للعراقيين إلا في حدود 4 ساعات فقط، من الساعة 8:30 صباحًا وحتى الساعة 2:30 بعد الظهر، على الرغم من أن الدوام الرسمي يجب أن يكون بمعدل 7 ساعات من 8 صباحًا وحتى 3 ظهرًا.
وأوضح “هذا الأمر يجعل المواطن العراقي، أمام خيارين، أولهما الذهاب لخدمات الطوارئ واستهلاكها دون مبرر، أو اللجوء للقطاع الخاص مما يحمل المواطن تكاليف كبيرة جدًا”.
ولا يقف الأمر عند ذلك، إذ يؤكد خبير الصحة العامة أن الزخم في مراكز الرعاية الصحية الأولية يعد كبيرًا جدًا، وذلك نتيجة النقص الكبير في مراكز الرعاية الصحية الأولية وعدم وجود مراكز تستوعب الأطباء المختصين بطب الأسرة، فضلًا عن مشكلة توزيع مراكز الرعاية الصحية، لا سيما أن العراق يسجل عجزًا بمعدل 3 آلاف مركز صحي أولي في جميع المحافظات العراقية.
وحمّل العنبوري وزارة الصحة المسؤولية ووجه الدعوة لها بإعادة هيكلة النظام الصحي في البلاد، مبينًا أن عدد المستشفيات والأجهزة لا علاقة له بالمراكز الصحية الأولية التي تقدم الخدمات المباشرة للمواطنين دون الحاجة للذهاب إلى المستشفيات إلا في حال تطلب الأمر ذلك.
ويتفق المواطن حسين علي الذي يسكن إحدى قطاعات مدينة الصدر شرقي العاصمة بغداد مع ما أشار إليه الدكتور علي العنبوري بالقول “نعاني من قلة المراكز الصحية الأولية وقلة الأدوية والطواقم الطبية”.
وأضاف “مع الزخم الكبير في جميع المراكز، اضطررت للمجيء منذ أكثر من ساعة للحصول على الرعاية الصحية وما زلت أنتظر”.
وأوضح المواطن الذي بدت عليه آثار التعب والإرهاق من طول فترة الانتظار “أن المركز الصحي الذي زاره يشهد ازدحامًا كبيرا في عدد المراجعين، وأن كثيرًا منهم من مناطق أخرى قريبة لا تتوفر فيها مراكز صحية، مما يدفع الكثير من المرضى للتوجه إلى العيادات الطبية الخاصة للعلاج وتحمل تكاليف ذلك”.
ويضطر عدد ليس بالقليل من العراقيين إلى العلاج بالمستشفيات الخاصة التي انتشرت بصورة كبيرة في عدد من المحافظات للتخلص من طوابير الانتظار الطويلة والحصول على أفضل الخدمات العلاجية، في ظل حاجة البلاد لبناء مستشفيات جديدة في ظل النمو السكاني الكبير.
ويؤكد عضو لجنة الصحة والبيئة في البرلمان الحالي باسم الغرابي أن البلاد في حاجة إلى 96 مستشفى ببغداد وبقية المحافظات، علاوة على نقص الطواقم المتخصصة.
ويشير إلى أن المشكلة التي يعانيها العراق تتمثل في إنشاء المستشفيات مع تهيئة المستلزمات لها، فكثير لا يثقون بالقطاع الطبي الحكومي لعدم توافر العلاج أو الطواقم المتخصصة مما يضطرهم إلى اللجوء إلى القطاع الخاص.
وأوضح أن هناك 10 مستشفيات قيد الإنشاء في عدد من المحافظات أو لم يكتمل افتتاح جميع أقسامها، وتم تخصيص مبالغ لإكمالها، على رغم من مباشرة العمل في بعضها عام 2011 إلا أن تطويرها توقف لأسباب مختلفة.
وأشار الغرابي إلى أن المستشفيات العراقية تعاني نقصًا كبيرًا في الطواقم المتخصصة وتحتاج إلى تدريب الأطباء، إذ يعتمدون على العلوم المكتسبة من أقرانهم الأكثر خبرة وفق خطة سنوية تستهدف إرسال الأطباء إلى خارج البلاد لتدريبهم على العمل لمدة خمس سنوات في المستشفيات لممارسة التخصص الذي تدربوا عليه.
ووفقًا لإحصاءات رسمية، فإن 72 ألف طبيب عراقي ما زالوا خارج البلاد، إذ دفعت بهم الظروف الأمنية والتهديدات التي تعرضوا لها إلى الهجرة.

هجرة جماعية للمرضى والأطباء بحثًا عن خدمات طبية أفضل من تلك المقدمة في مستشفيات العراق

ويفكّر عدد كبير من الأطباء في العراق بالهجرة، ويرفضون إجراء عمليات جراحية بسبب تزايد حالات الاعتداء عليهم من قبل أهالي المرضى.
وتعليقًا على ذلك، ترى المحامية والناشطة في حقوق الإنسان إسراء الخفاجي أن موضوع الاعتداء على الطواقم الطبية في العراق له أسباب عديدة، مشيرة إلى أن هذه الأزمة لم تتشكل من فراغ.
وتشير الخفاجي، إلى جملة من الأسباب من بينها إجراء عمليات جراحية غير مغطاة قانونيًا بالإضافة إلى الإهمال الجراحي من قبل الأطباء وعدم الاهتمام الطبي الكافي.
وتضيف “نسمع عن وقوع عدد من الوفيات في غرف العمليات نتيجة الإهمال وذلك خلال عمليات جراحية خطرة، وعمليات تجميلية.. حيث يكون الأطباء غير مؤهلين لإجراء مثل هذه الجراحات”.
ولا يقتصر موضوع الهجرة على الأطباء فحسب، بل وصل إلى المرضى الذين يبحثون بدورهم عن جودة أفضل في الخدمات الطبية في دول العالم مثل الهند ولبنان وتركيا والأردن التي تحولت إلى وجهة مفضلة للعراقيين طلبًا للعلاج.
ويعلق عضو نقابة الأطباء العراقية، وائل العاني، حول هجرة العراقيين طلبا للعلاج بالقول إن وجهات المواطنين إلى كل من الهند وتركيا والأردن ولبنان وإيران وأخيرا مصر، ارتفعت بواقع الضعف خلال السنوات الخمس الأخيرة”.
وأضاف أن ما لا يقل عن 200 ألف عراقي يغادرون البلاد سنويًا بحثًا عن العلاج في دول الجوار أو الدول التي يسهل حصولهم فيها على تأشيرة دخول وإقامة مؤقتة”.
ويعزو عضو نقابة الأطباء هذه الهجرة العلاجية إلى تراجع الخدمات الصحية المقدمة داخل العراق ضمن القطاع العام وحتى الخاص، مشددًا على أن الإنفاق السنوي للعراقيين على العلاج في الخارج يكفي لإعادة تأهيل القطاع الصحي بالبلاد بشكل كامل.
وتحول القطاع الصحي المتهالك على مدار عقدين إلى رافد رئيس من روافد الفساد في العراق لما يوفره من عقود ومناقصات، تدخل أموالها في جيوب الأحزاب والميليشيات وجهات نافذة في الحكومة، التي تسعى بدورها إلى استثمار هشاشة النظام الصحي والمساهمة في ديمومته، حتى يضطر المواطن للسفر خارج البلاد أو اللجوء للمستشفيات الأهلية وفق اتفاقيات في الغالب معدة سلفًا، تحصل بموجبها مافيات الفساد على نسب كبيرة من عائداتها.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى