أخبار الرافدين
طلعت رميح

درس استراتيجي كبير من أذربيجان

لم تدم الحرب التي شنتها أذربيجان على الدولة الانفصالية لإقليم قرة باغ، سوى 24 ساعة. كانت حرب خاطفة أعلنت بعدها قيادة تلك الدولة،
التي لم يعترف بها أحد، عن حل نفسها والخضوع لسلطات الدولة الأذربيجانية، فانتهت بذلك حالة كانت قد استعصى حلها على مدار قرن من الزمان، ولم تفلح خلاله أذربيجان، عبر ثلاث حروب من تفكيكها وإنهائها.
اللافت في تلك الحرب الخاطفة، إنه لم يكن الجانب العسكري فيها، هو الأهم.
لقد كان بإمكان القوات المسلحة الأذربيجانية أن تنهي تلك الحالة قبل ثلاث سنوات، خلال الحرب التي جرت في عام 2020. وقتها تمكنت أذربيجان من هزيمة أرمينيا، الراعي للحالة الانفصالية والمساند لها، واسترداد أراضيها المحتلة. وكان ممكنا عسكريا أن تكمل أذربيجان نصرها باجتياح أراضي الإقليم بعد أن حاصرته قواتها من جميع الاتجاهات. لكن أذربيجان لم تقدم على ذلك.
كانت الحسابات السياسية والإستراتيجية، هي ما منعت اجتياح الإقليم.
ولذلك، لم يكن الجانب العسكري هو الأهم في الحرب الخاطفة التي شنتها أذربيجان مؤخرا. وفي ذلك قدمت أذربيجان نموذجا ودرسا كبيرا في فهم الحسابات السياسية والإستراتيجية للوضع الإقليمي والدولي، وفي إدارة الصراعات، وفي دقة تحديد توقيت إطلاق حملتها العسكرية وفي سرعة إنجازها.
لقد تحركت أذربيجان على حواف الخطوط الفاصلة بين مصالح وخلافات وصراعات القوى الإقليمية والدولية. وتحركت بسرعة لإنجاز هدفها، في توقيت قاتل، وقبل أن تتسع ردود الفعل في مواجهتها.
وكان واضحا أيضا، أن أذربيجان قد حصرت معركتها في إنهاء حالة الدولة الانفصالية دون غيرها، فلم تثر قضايا أخرى حيوية لها، كممر زنجروز، تفاديا لردود فعل قد تعرقل أو تصعب انتصارها.
وهو ما يعني أن أذربيجان ستكون على موعد آخر، لحسم قضية الممر الحيوي إلى مقاطعة ناختشفيان.
ولقد أثيرت تساؤلات في بداية العمليات، بشأن الموقفين الأمريكي والإيراني.
لقد تساءل البعض بقلق، كيف لأذربيجان أن تشن حربا على إقليم قرة باغ التابع لأرمينيا فيما القوات الأمريكية تجرى مناورات مع الجيش الأرميني المساند والداعم والحامي لهذا الإقليم الانفصالي؟ ثم، ألم تخش من أن يكون قرارها مغامرا، إذ تشعل حربا عسكرية على بعد خطوات من حرب دولية كبرى تجري في أوكرانيا؟
وكان هناك من أبدى خشيته من تدخل إيران بطريقه أو بأخرى ضد أذربيجان، إن لم يكن بحكم مساندتها لأرمينيا تاريخيا، فبحكم سياستها الساعية لإضعاف أذربيجان، التي تنظر لها إيران كمنافس خطير لها بحكم أغلبية سكانها الشيعة، وبحكم أن إيران تراها مهددا لأمنها “الوطني” بسبب ارتباط الأتراك الأذري في إيران، بأذربيجان تاريخيا، ولتنامي الحركات الداعية للانفصال عن إيران والعودة للانضمام لأذربيجان.
وواقع الحال أن إجابة السؤالين، وإن بطريقه معاكسه لتلك التخوفات، هو ما مثل مفتاح اتخاذ القرار الاذربيجانى بالهجوم، وهو ما يشكل خلاصة الحسابات الإستراتيجية الذكية والدقيقة في تلك الأزمة.
والأمر باختصار أن أذربيجان اعتبرت أن الموقف الروسي هو الأهم تأثيرا على الصعيد الإستراتيجي، وأن موقف روسيا يمر بلحظة تغيير فارقه، تتيح لأذربيجان اتخاذ قرار الهجوم، وأن الموقفين الأمريكي والإيراني بالإمكان تحييدهما عبر إجراءات تكتيكية، سواء بعدم طرح قضية ممر زنجرور، أو بسرعة إنجاز العملية وعدم إبداء الانزعاج بسبب المناورات العسكرية الأمريكية مع أرمينيا.
لقد كانت روسيا هي المسيطرة وصاحبة الدور الأكبر في نشأة هذا الإقليم. وكانت هي من ساندت أرمينيا في حروب جرت على مدار قرن من الزمان، وذلك لأسباب كثيرة من بينها البعد العقائدي بطبيعة الحال.
لكن أذربيجان أدركت أن الموقف الروسي تغير بسبب توجه أرمينيا للتحالف مع الغرب، فتحركت وشنت حرب 2020، لكن وفق مدى محسوب ومتناسب بدقة مع حدود التغيير الحاصل في الموقف الروسي. ويمكن القول بأن الموقف الروسي وقتها لم يكن يسمح للجيش الأذربيجاني باجتياح الإقليم الانفصالي.
لم يكن التغيير في الموقف الروسي قد وصل إلى درجه تمكن أذربيجان –وضمن أوضاع دولية أخرى– من شن حرب اجتياح للإقليم.
وفي الأيام الأخيرة قرأت أذربيجان أن الموقف الروسي بات يسمح بمساحة أخرى للحركة من جديد، بعد الإعلان عن إجراء مناورات بين الجيشين الأمريكي والأرميني وبعد صدور مطالبات في أرمينيا بضرورة رحيل القاعدة العسكرية الروسية من البلاد، وبضرورة تغيير تسليح الجيش الأرميني من الروسي إلى الغربي. وقد وجهت اتهامات لروسيا بالوقوف خلف مساعي بعض القوى الأرمينية لإطاحة رئيس الوزراء الحالي.
والحقيقة أن الحسابات كانت دقيقة للغاية والحركة جرت على حافة الخطر.
ذلك أن إنهاء الحالة الانفصالية للإقليم باستخدام القوة العسكرية، يقدم نموذجا متصادما مع الخطط التي تعتمدها روسيا في دول الجوار، ويحفز دولا أخرى للحذو حزوم أذربيجان. فروسيا تنشئ أقاليم إنفصالية داخل الدول وتتبع ذلك بتدخل عسكري لضم
تلك الأقاليم للأراضي الروسية، وليس من مصلحتها أن تتحرك الدول إستباقيا لإنهاء تلك الحالات الإنفصالية.
نجحت حسابات أذربيجان فى حربها الخاطفه، لكن القضية لن تنتهي عند هذه النقطه، إذ الصراع له أبعاد عقائدية وقومية وإستراتيجية عميقه، كما أن موقع إقليم القوقاز يعبر عن هشاشة أوضاع دوله وصراعاتها تفتح مساحات لحدوث صراعات كبرى قادمة.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى