أخبار الرافدين
كرم نعمة

عرض السوداني الأخرق على ضفة الكاظمية

هناك ما يستدعي الانتباه في كلام رئيس حكومة الإطار التنسيقي محمد شياع السوداني بشأن القطيعة المفترضة عند العقل القبوري وحده، ويمثلها كلامه الزائف عن الكاظمية ومنطقة الكريعات بعد افتتاح جسر للمشاة على نهر دجلة.
ما يسترعي الانتباه ليس زيف الخيال الرخيص في كلام السوداني، لأن أشد كارهي النظام السابق سيسخر من تلك الحثالة التي تفوه بها رئيس حكومة الإطار التنسيقي، بل لأن مزاعم السوداني تمس ذاكرة بغداد التي تسيّد فيها ذوو الأصول الوضيعة، بعد أن اقتحم متحف خزفها ثور طائفي أهوج، ليدمر كل جميل ومتسامح وإنساني ومتحضر فيها.
لو تسنى للسوداني مثلا تتبع شيئًا من سيرة ابن بغداد جلال الحنفي وكيف كان يتنقل في أروقتها بصحبة علي الوردي ما بين الكاظمية والأعظمية والكريعات والعطيفية والوزيرية، للتحدث في مجالس أعيانها وبيوتها، لشعر بهراء وسخف مزاعمه عن القطيعة بين الكاظمية والكريعات، فلم يشهد تاريخ بغداد قطيعة إلا عندما تسيد العقل القبوري الطائفي فيها، الذي يمثله السوداني اليوم في رئاسة حكومة الإطار التنسيقي.
السوداني في كلامه الملفق لا يمسّ روح تاريخ المجتمع البغدادي فقط، بل يمتدّ إلى عراق غابت فيه صورة الحنفي والوردي بوصفهما أبناء بغداد الحقيقية، وحضرت النماذج المغرقة في الزيف بوصفها ممثلا لبغداد بعد أن سُلبت روحها وحُطمت تماثيلها وشرّد وقسّم أهلها وقطعت جسورها وعزلت أحياءها في الزمن السياسي الذي يدافع عنه السوداني.
ذلك جزء من المشهد، ثمّة مساحة اجتماعية غائبة هي بالأساس المعبّر بجدارة عن عصر النخب المنهار، بينما المساحة الطائفية تقدّم نفسها بكل رثاثتها كبديل شرعي للنخب البغدادية.
قبل سنوات قليلة رُفع في بغداد بمهرجان مسرحي للتعزية شعار ينم عن السقوط المريع الذي جسده السوداني في كلامه عن القطيعة بين الكاظمية والكريعات، عندما اختار مسرحيو الأحزاب الطائفية الحاكمة جملة مستوحاة من ضحالة الزيف التاريخي الذي تذرع به السوداني على الجسر فوق نهر دجلة، شعارا للمهرجان “إذا كانت بغداد عاصمة الدنيا، فكربلاء عاصمة الدنيا والآخرة”!
شكسبير رؤيوي كبير عندما يتعلق الأمر بالأخبار السيئة، فكانت هذه المرة قراءته عن بغداد دون أن يمر بها. فالبشر ضعفاء، غير أخلاقيين، شهوانيون، مخادعون، قتلة، غيورون، متهورون، مجانين، وفي سعي الناس للحصول على السلطة، بات شيوع الزيف من متلازمات الحياة، تماما كزيف مزاعم السوداني عن بغداد الأمس.
فعندما أراد “أحدهم” أن يرفض الوضع الشاذ في بغداد وفقًا للتقسيم الطائفي الذي ساد بعد الاحتلال عام 2003، أعاد قراءة شكسبير من “حذائه” وليس مما أنتجه خياله الفذ، فقدم روميو وجوليت بطريقة هي سنية وهو شيعي! كما يكرر السوداني في سرديته الملفقة عن القطيعة بين أحياء بغداد، نفس الصورة المتهرئة التي رفعها نوري المالكي عن جيش يزيد وجيش الحسين.
ستكون هناك أكثر من عاصفة على المسرح الشكسبيري البغدادي، لكن أيا من تلك العواصف لن تستطيع مغادرة سوق الخيال الطائفي الضحل وفقا لسردية السوداني الجديدة، سيكون للخيال الرخيص موقعًا عندما يرتقي ذوو الأصول الوضيعة المراكز العليا بوصفهم سادة بغداد، ستفقد اللهجة البغدادية حكمتها إن لم يضف إليها زعماء الطائفة أيا كانوا، شرعية الخرافة، وهكذا يصبح الوقار والحكمة والكرامة والوطنية كلمات عتيقة مرتبطة بالماضي ويجب تشويه دلالتها واجتثاثها ومنعها عن جيل الألفية، كي لا تصبح الوطنية مثاله، فثمة أمثلة أكثر أهمية اليوم تبدأ بالطائفية ولا تنتهي بالعشائرية.
حتى الماضي عندما يراد استحضاره فسيتم وفق مشيئة الخرافة التي تقبلتها العقول الضحلة كمنقذ لها من البؤس والانهيار والتداعي القائم منذ احتلال بغداد قبل عشرين عامًا.
الزمن الشاذ الذي يعيشه العراقيون اليوم، لن يكتفي بكونه قدرًا قائمًا، إلا بتجسيده على مسرح العبث الذي يجعل التنافس بين ضواحي بغداد وأحيائها قائمًا بفكرته الطائفية مضافًا إليه هذه المرة الزيف عن تاريخ قريب يريد السوداني أن يخدع العراقيين به عنوة في عرض تلفزيوني أبله.
في رواية زهير الهيتي الأخيرة “إيكاروس” التي تمثل أصدق صورة ملهمة لبغداد في يوم واحد، وهي بمثابة نص قائم من ذاكرة المدينة التي رُسمت في يوم ما على لسان الملا عبود الكرخي بتمر “خستاوي”. يفكك مؤلف الرواية كلام السوداني قبل أن يسمعه! فعندما يخرج العيارون من جحورهم وقت الكوارث، لا أحد يستسيغ مفردة الضمير، ذلك ما يريد أن يوصلنا إليه المؤلف في هذا النص الذي يكاد يكون قطعة ثمينة من قلب بغداد.
فهناك في هذا البلد من عَملَ وما زال يعمل اليوم، بدأب شيطاني لزمن عنوانه الغدر، فمأساة “إيكاروس” تكررت لتستمر متوالية القتل وتزييف التاريخ بنفس القوى الشريرة، بدأت عندما افتتحت وليمة الفتك في اتفاق شيطاني تجري فيه الميليشيات كالوحوش لمجزرة القتل على الهوية في بغداد، فالغرائز الحيوانية ومن ثم الطائفية لا بد من أن تتلاحم حتى يحدث السقوط الكبير لبغداد. وهكذا تنعقد سلسلة الشر المدمر لكل إنجاز حضاري تحقق.
أما الطيبون، وهم بالتأكيد كثر في بغداد، ولسوء قدرها اكتفوا على مر التاريخ بالنظر والتحسر وصفق اليد بالأخرى، غير أنهم اليوم يشهدون واحدة من أكثر مهازل التلفيق في كلام السوداني عن القطيعة ما بين الكاظمية والكريعات، وكأن عقله الطائفي نسي هناك جسرًا ما بين الكاظمية والأعظمية التي تبعد بضع خطوات، فأي نوع من الأكاذيب يقدمها في هذا العرض الأخرق عن القطيعة بين البغداديين!

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى