أخبار الرافدين
د. رافع الفلاحي

حق القول

في الطريق إلى نظام دولي جديد (3)

ما إن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها “1939-1945” حتى ظهرت  إحصائيات أولية مخيفة عن بعض ثمن الحرب الذي دفعته الشعوب وبما يعبر عن الواقع المرير الذي واجهته آنذاك الكثير من دول العالم وشعوبها، إذ فقدت هذه الشعوب 32 مليون إنسان في ميادين القتال، وقضت الغازات السامة التي انبعثت من مقذوفات المتحاربين ومن عمليات القصف على 20 مليونًا من الأطفال والنساء والشيوخ، فيما قتل  26 مليونًا من الرجال في معسكرات الاعتقال، وأصيب 39 مليونًا بعاهات مستديمة، فضلًا عن تدمير 51  مليون مسكن وتشريد وإبعاد وحرمان أكثر من 95 مليون إنسان ظلوا بلا مأوى ولا أوطان ولا أهل.
لقد كان لكل هذه الخسائر الكبيرة وغيرها، أثره البالغ في إحداث تغيرات وتوزيعات جوهرية في ميزان القوى الدولية، وهو أمر كانت الولايات المتحدة الأمريكية ترصده بكل دقة خاصة بعد أن وجدت نفسها بعد تلك الحرب العالمية، إحدى القوتين الكبيرتين في العالم “الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي”، وأن نظامًا دوليًا جديدًا قد نشأ  بعد الوهن الكبير الذي أصاب الدول الاستعمارية القديمة “بريطانيا وفرنسا وإيطاليا” نتيجة الخسائر الهائلة التي تعرضت لها، وقد كانت هذه الدول هي من يتحكم بميزان القوى العالمي وتحدد شكل النظام الدولي، إضافة إلى أن أغلب دول العالم التي انجرت إلى هذه الحرب راغبة أو مرغمة، بدأت ترفض وتقاوم تسلط قوى الاستعمار القديم مدفوعة  بتراخي قبضة المستعمرين نتيجة خسائرهم الكبيرة، وبغضب من الوعود الكاذبة التي قطعتها تلك القوى الاستعمارية ولم تجن منها الشعوب المسحوقة غير تراكم الخراب والخيبة وقد تحولت أراضيها إلى ساحات محروقة لقتال دامٍ.
وهكذا، أصبحت الولايات المتحدة تملك أرجحية مطلقة في العالم الرأسمالي، وهي التي خرجت من الحرب العالمية الثانية منتصرة ولم تتعرض إلا لخسائر بسيطة، لا تكاد تذكر مقارنة بكل القوى التي اشتركت بتلك الحرب. الأمر الذي جعل المؤسسات الأمريكية الحاكمة على قناعة تامة بأن الوقت قد حان لكي تصبح الولايات المتحدة القوة  الأكثر تأثيرًا في السياسة والاقتصاد الدوليين، وأن الاستثمارات الأمريكية في الخارج تحتاج أولًا إلى قوة عسكرية تتولى حمايتها من الأخطار، خاصة أن مفهوم الاستثمار عند الحكام الأمريكيين، هو مفهوم “مطاط” يشمل كل ما يندرج في قائمة تحقيق مصالح أمريكا، ومن دون النظر إلى تعريض قدرات الشعوب وإمكاناتها للاستغلال والسيطرة الكاملة على ثرواتهم، فالمهم دائمًا هو تحقيق أعلى العوائد والأرباح التي تصب في “سلة” الاقتصاد الأمريكي أولًا وأخيرًا.
لقد كان انتهاء الحرب العالمية الثانية، إيذانًا باندفاع الولايات المتحدة الأمريكية لفرض نفسها قوة ساعية للسيطرة على العالم، وكان العامل المميز في صورة هذا السعي هو احتضانها للشركات الاحتكارية متعددة الجنسيات، وفسح المجال أمامها للسيطرة على الثروات الهائلة في الخارج وتسخير كل الإمكانات الأمريكية لخدمة أهدافها الأمر الذي انعكس بشكل واضح على كل الاقتصاد الأمريكي، فشهد أكبر عملية توسع وازدهار جعله يحتل المرتبة الأولى كأقوى اقتصاد في العالم.
ولما كان الاقتصاد الأمريكي، مثل أي اقتصاد آخر،  يحتاج إلى سوق يطلب إنتاجه ويدر عليه الأرباح العالية، فكان القرار هنا أن يتم التركيز على الإنتاج الحربي، ودفع السياسة الخارجية الأمريكية للعمل بكل قوة على تسخين الأجواء الدولية وإيجاد أكثر من بؤرة للنزاعات الإقليمية، الأمر الذي جعل صنع السلاح وتخزينه وتجارته، هدفًا في حد ذاته من الأهداف العليا والأساسية للاقتصاد الأمريكي وللمؤسسات التي يقوم عليها، التي تتولى في الحقيقة تحديد نوع السياسة الأمريكية وتوجهاتها، وقد برعت هذه المؤسسات في جعل السياسيين الأمريكيين ينقادون لتبني خطط إنفاق حكومي واسع في هذا المجال كسبيل لامتصاص البطالة والتغلب على الأزمات الداخلية وتحقيق أهداف إستراتيجية السيطرة والهيمنة على الساحة الدولية والتحكم بشكل وتوجهات النظام الدولي.
ويشير أحد أبرز الخبراء الأمريكيين في الشؤون الإستراتيجية الدكتور رالف لاب في كتابه “مزرعة الأسلحة” إلى صورة التوجه الأمريكي في تلك المرحلة بالقول “منذ الحرب العالمية الثانية، ومنذ الحرب الكورية على وجه التحديد، لم تعد صناعة الأسلحة مجرد عمل طارئ تسهم به الشركات الخاصة لمساعدة الحكومة الأمريكية، بل أصبحت كثير من الشركات الأمريكية تقوم بصنع الأسلحة في المقام الأول، لقد أصبحت تجارة تلك الشركات وأرباحها تعتمد على الفوز بعقود أكثر وأضخم تنفذها لحساب وزارة الدفاع. لقد صار التوسع الاقتصادي مرتبطًا باستمرار بالتوسع في التكنولوجيا العسكرية ومواصلة تكديس المعدات الحربية”.
وفي ظل كل ذلك التوجه وتلك الظروف،اتخذت الولايات المتحدة من مفهوم العالمية (Universalism)  مسوغًا لها تتستر به للتدخل في الشؤون الدولية في أي مكان في العالم من دون أن تسمح لأحد بمطالبتها بتفسيرات لعملها هذا، باعتبار أن الحرب الباردة المعلنة ضد العدو رقم واحد “الاتحاد السوفيتي” كفيلة بأن تسوغ أي فعل أمريكي كونه من ضرورات سياسة “ردع الشيوعية” وفقا للتسمية التي أطلقها عام 1947 الرئيس الأمريكي هاري ترومان، غير أن الحرب الباردة في حقيقتها لم تكن إلا حجة واهية لرفض استقلال ما يطلقون عليه في أدبيات السياسة الغربية “دول العالم الثالث”، لقد سوغت كل أعمال التآمر والعنف والحصار الاقتصادي ضد دول العالم الثالث على أساس الدفاع ضد السوفييت أو الدفاع عن السلم العالمي والشرعية الدولية وهما من أشد المفاهيم التباسًا وقابلية لاستعملهما كأدوات للعدوان بالضد فعليًا من السلم والشرعية الدوليين، ولعل في نموذج العدوان الأمريكي على العراق سواءً في عام 1991 “حرب الخليج الأولى” أو في احتلاله عام 2003 “حرب الخليج الثانية” ما يوضح ذلك الاستعمال الأمريكي والغربي الكاذب والمخادع لهذه المفاهيم، وقبل ذلك كان واقع الحال قد اثبت كذب وتضليل السياسة الأمريكية والغربية في التعامل مع الشعوب التي تتطلع للحرية والاستقلال والبناء والتطور، فقد شهدت الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية نشاطًا حادًا لحركات التحرر الوطني في كثير من بلدان العالم وانتعاشًا لأفكار وقوى تسعى إلى إعادة مجد تأريخ شعوبها وأممها بالاستناد إلى موروثاتها ومعتقداتها الدينية والإنسانية والاجتماعية وما تحمله من قيم ومبادئ تؤكد على تحقيق العدالة ونبذ العبودية والاستعمار  والاستغلال، الأمر الذي اعتبرته المؤسسات الحاكمة الأمريكية تهديدًا مباشرًا للمصالح الأمريكية وللنظام الرأسمالي الغربي، وبما يحتم على أمريكا “مدعومة بدول الغرب” أن تتصدى له وتقف بالضد منه أينما يكون. والحديث مازال فيه الكثير.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى