أخبار الرافدين
د. رافع الفلاحي

العراقيون ومن يدعون العراقية!!

تنطوي اضطرابات التكيف أو التأقلم مع الأحداث على أغراض انفعالية أو سلوكية “كما يقول علماء النفس”. وتعتمد في طبيعتها وشكلها على ثقافة الإنسان وقدراته وإيمانه وتربيته وعقيدته، التي يعبر عنها جميعًا من خلال أداء يجسد رد الفعل الطبيعي إزاء تلك الأحداث.
ومن مظاهر ردود الفعل تلك، ما يعبر عنه البعض بتصرف رصين ومواقف سليمة يتحمل مسؤوليتها مهما كانت ثقيلة وكان البعض يراها خطيرة بالقياس إلى المناخ السائد والبيئة القائمة، وبما يعبر عن توازن نفسي وعقلي عند أصحاب تلك التصرفات وتصالح وتطابق مع النفس في جوهرها ومظهرها. وتلك صفة يتحلى بها من يعبرون عن جوهر المقاومة لكل ما هو باطل وغير شرعي. فيما يعبر البعض في مواجهة نفس الحدث عن سوء تصرف مطبوع بالكذب والمداهنة كمحاولة منهم للتكيف مع المناخ والبيئة التي قامت بأثر ذلك الحدث. معبرين بذلك عن تصرفات غير سوية وانتهازية لا تنسجم مع ما كانوا يبدونه قبلها، الأمر الذي يؤكد ذلك الانفصام الذي يعيشونه بين ما هو مخفي وما هو ظاهر من شخصياتهم.
نسوق كل ذلك ونحن على أعتاب الذكرى العشرين لاحتلال العراق عام 2003، وانطلاق المقاومة العراقية الباسلة ضد ذلك الاحتلال الغاشم. فإزاء حدث جلل كالاحتلال كان يتقصد تجسيد حالة من “الصدمة والترويع” في نفوس العراقيين من خلال حجم المقذوفات المتفجرة التي ألقيت عليهم وعلى كل ما يمت لحياتهم بصلة، ومن خلال حجم القوات الغازية بعديدها وعدتها وشكل استعراضاتها، فضلًا عن طبيعة البيئة المعادية التي أوجدتها واشنطن ولندن، إقليميًا ودوليًا ضد العراق والعراقيين، وانقطاع كل سبل التواصل والمعرفة والمساندة التي كان أهل العراق يحتاجونها لمواجهة قوى دولية وإقليمية تتفوق عليهم بكل التفاصيل، كنتيجة طبيعية لحصار شامل ومحكم فرض على العراق قبل احتلاله بثلاث عشرة سنة، كانت فيها حبة الدواء ممنوعة وقلم الرصاص وحليب الأطفال وكراس الطالب ومنضدته وسبورة الكتابة في فصول مدرسته ممنوعة، وكل شيء يمكن أن يسند حياة العراقيين ممنوع.
العراقيون وإزاء احتلال وقد وقع، راحوا يتصرفون وفقًا لطبيعة كل واحد منهم وبما أفرز المجاميع وفصل بينها، فالبعض ووفقًا لرؤيته المنسجمة مع ثبات نفسي وعقلي وروحي وديني ووطني، كان يجد الاحتلال أمرًا مرفوضًا ويجب إزالته ومواجهته مهما كان شكله ومهما كانت قوته ومهما كانت مبرراته وجنسه، وهو القرار الذي كان مستقرًا في عقول ونفوس من حملوا لواء المقاومة العراقية مع أول يوم للاحتلال، إذ كانوا قد أعدوا العدة له فربط كل واحد منهم نطاقه على خصره، ولم ترهبه للحظة واحدة جموع المحتلين وقوتهم وطبيعة أسلحتهم المتطورة والفتاكة ومن جمعوا لمساندتهم وتأمين الدعم اللوجستي لهم فقد كان المقاومون يعرفون أن ليس لهم إلا ذلك الفعل الشجاع الأصيل، وتلك والله صورة جسدتها رسالة بعث بها الشيخ الدكتور حارث الضاري رحمه الله لابنه الدكتور مثنى قبل الاحتلال وكان الشيخ حارث آنذاك أستاذًا في إحدى الجامعات الخليجية وقد تيقن أن الاحتلال واقع لامحالة وأنه لابد أن يعود بسرعة إلى العراق ويقف مع أبناء بلده في مواجهة تلك المحنة الكبيرة. لكنه وتحسبًا من ظروف التأخير والسفر البعيد كتب تلك الرسالة وبعث بها على عجل لولده الدكتور مثنى قائلًا “مالكم غير المقاومة”. وقد صدق في رؤيته وصدق في التزامه وانتمائه.
وفي مقابل من قاوم بالسلاح أو الفكر أو التصرف والرأي، كان هناك البعض من أصحاب الرؤية الشاذة والقاصرة، والمملوءة نفوسهم وعقولهم بأحقاد وسواد ورغبة جامحة للانتقام وتنفيذ أجندات سبق أن وافقوا على تفاصيلها لصالح أطراف خارجية وعلى رأسها إيران. راحوا يتحدثون للناس “في محاولة لتسويغ أفعالهم أو لتضليل الناس وجعلهم يتكيفون مع واقع الاحتلال الشاذ على أنه حالة طبيعية”. إذ كانوا يتحدثون عن الاحتلال كونه تحريرًا وأنه قد أحدث تغييرًا، وذلك أمر صحيح من حيث إن تغيرًا حصل. لكن أي تغير أحدثه الاحتلال وهل يصح قياسه بأي تغيير آخر؟!
الحقيقة أنهم كانوا يسوقون لأحداث لا يستوي القياس بها مع حدث الاحتلال، إذ راحوا ينتقون من التأريخ المعاصر والحديث محطات معينة عاصروا بعضها أو سمعوا وقرأوا عن البعض الآخر منها وقد أحدثت تغيرًا ملموسًا هنا وهناك، ويقولون إنها أحداث تغيير شبيه بما واجه العراق عام 2003 وبعده، ومن بين ذلك كانوا يسوقون ثورة 14 تموز عام 1958 في العراق كمثال على ذلك بما أحدثته من تغيير في بنية النظام وشكله وتوجهات البلد، وعن ثورة 8 شباط عام 1963 أو التغيير الذي جرى فيما بعد عام 1964 ثم ثورة عام 1968 فضلًا عن الحديث عن ثورة تموز عام 1952 في مصر أو ما حصل في إيران عام 1979 أو حتى الثورة الروسية عام 1917 أو غير ذلك من الأحداث.
غير أن كل تلك الأحداث لا يمكن القياس عليها بموازاة الحديث عن حدث الاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003. نعم كانت الأحداث السابقة قد أدت أو تقصدت إحداث تغيير لكن احتلال العراق كان تغييرًا يعبر عن اقتلاع لبلد بشعبه وتأريخه وثرواته وكل ما يملك ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا ووضعه في طريق المجهول والتشتت والضياع والوهن الكامل، فهل يستوي ذلك التغيير مع هذا؟
لقد كانت كل تلك القياسات غير صحيحة ومضللة ولا تنطبق على واقع ما جرى ويجري في العراق طوال عشرين سنة مضت، لكن من ساقوها كانوا يتقصدون سحب العراقيين إلى منطقة رمادية يتشوش فيها الفكر وتتساوى فيها الأشياء ولا ينشغل الناس فيها إلا بشؤون توفير لقمة العيش والانزواء بعيدًا عن شؤون الوطن وحاجاته ولا تضللهم إلا الرايات الصغيرة “طائفية أو فئوية أو عشائرية…” أما الراية الجامعة فلا يجب الحديث عنها ولا الاقتراب منها ،لأنها “بادعاء كاذب ومضلل” مرتبطة بصناعة نظام سابق دكتاتوري لا يؤمن بالديمقراطية وتصريفاتها؛ وكأن الانضواء تحت الرايات الفرعية وجعلها أعلى وأكثر تميزًا من الراية الواحدة الجامعة، هو عين الديمقراطية ومقصدها.
وتحت مظلة هذا الفكر الكسيح والمضلل، تحركت هذه المجاميع “قوميًا أو طائفيًا” بإسناد ودعم وتوجيه من إدارة الاحتلال وقواته لتنفيذ أعمال القتل والسلب والنهب والاستيلاء والتفرقة وغير ذلك الكثير، كونهم من يتولون حكم العراق بالوصاية الأمريكية.
وفي سياق الحديث عن مواجهة الكوارث “ومنها الاحتلال” واضطرابات التكيف أو التناغم معها يقول العالم العربي ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: عندما تسقط المدينة “بمعنى عندما تحل كارثة كبيرة كالاحتلال مثلًا” يكثر الكذابون والدجالون والعرافون وتجار السوء. وعلى أساس هذه المقولة نجد إضافة إلى كل المجاميع السابقة، مجموعة تستند هي الأخرى إلى قياسات محكومة بفكر شاذ وغير صحيح. كان للبعض منهم خصومات مع النظام السابق لأسباب متعددة لكنهم لم يفرقوا بين التعاطي مع النظام والتعاطي مع الوطن، وكانوا في واقع الحال يعرضون أنفسهم للبيع أو الإيجار تحت شعار “التعايش” والقبول بالأمر الواقع، فكانت الانتهازية سياقًا مميزًا لتحركهم، معتقدين أن لهم وزنًا مؤثرًا عند الطرفين الآخرين؛ الذين راح أحدهما يعلن أنه الأكبر “مذهبيًا” مع أنه طوال عشرين سنة مضت كان أكثر من عرض أصحاب المذهب الذي يدعون الانتماء إليه. للظلم والبؤس والفقر والبطالة والأمراض، وأنه المتسيد بحكم الأكثرية العددية التي يدعيها. فيما كان الطرف الثاني مدفوعًا تحت رايته العرقية ساعيًا لتحقيق مصالحه فقط، سواء بالتوافق أو بالضغط مع يتمسكون بالمركز أو بالقفز عليهم. وبالتالي فقد وجدت هذه الجماعة أنها تابعة وهذه صفة تستلزم منها الإذعان وتقديم فروض الطاعة والتنازلات لكي تستمر في الحصول على الامتيازات المادية والمعنوية.
ومن بين هذه التنازلات الاستجابة لطلبات العمل في التحول إلى ضد نوعي يسلب من المقاومين والوطنين الذين لم ينخرطوا في مشروع الاحتلال كل ما يميز ماضيهم وحاضرهم أو يشوه صورتهم. ومن هنا ظهر من بين هؤلاء من يدعي أن إيران كانت داعمة للمقاومة بالمال أو غير ذلك، فضلًا عن تأييدهم لهذه المجموعة الميليشياوية أو تلك التي تدعي أنها من فصائل المقاومة، وهي لم تكن إلا أدوات بيد إيران وتحت مظلة الأمريكان لسحق العراقيين، وسلبهم كل وسائل قوتهم ومصادرها. فيما يعرف الجميع أن إيران كانت حتى قبل الاحتلال قد أعدت عدتها وميليشياتها ومجاميع القتل والتخريب لتقدمها عربونًا تتخادم من خلاله مع أمريكا في احتلال العراق، بعد أن توافقت طهران وواشنطن على الهدف الرئيس المتمثل بإضعاف العراق وتجريده من كل مصادر قوته، الأمر الذي جعل واشنطن تؤمن للميليشيات ولفرق الموت والتخريب والنهب المدربة في إيران والمدعومة منها، وسائل الدعم والتمكين والإسناد، وبما مكن إيران من التغول في العراق وجعل كل المراقبين يؤكدون أن أمريكا قدمت العراق إلى إيران على طبق من ذهب. فكيف لمن تخادمت مع أمريكا وأسست الميليشيات وأشاعت الفوضى والخراب والقتل والفكر الطائفي ومزقت المجتمع ونشرت المخدرات والجهل والأمية في العراق وقتلت الكفاءات وأساتذة الجامعات وغير ذلك الكثير من الكوارث، يمكن أن تكون داعمة للمقاومة العراقية التي أرادت تحرير العراق وإعادة هيبته وقوته وتأمين سيادته واستقلاله؟
وبين هذا وذاك من أطراف العملية السياسية وأدواتها في الحكم، ظهرت مجموعة المنتفعين ممن حرص كل طرف من أطراف الحكومة على إيجادهم من خلال تأمين الوظائف لهم وربط حياتهم بمورد مالي يحصلون عليه شهريًا من خزينة الدولة وليس عليهم القيام بأعمال ترهقهم أو يتحملون من أجلها أي مسؤولية، سوى مسؤولية تأييد الطرف الذي أمن لهم هذا المورد المالي، حتى بلغت أعداد هؤلاء الموظفين نحو 4.5-5 ملايين موظف، تبلغ رواتبهم الشهرية نحو 6 مليار دولار شهريًا، أي نحو72مليار دولار سنويًا بما يعادل نحو ثلثي موارد النفط السنوية التي تشكل أكثر من 98 بالمائة من موارد الخزينة العراقية.
وقد استعمل هذا العدد من الموظفين في حملات الدعاية لأحزاب السلطة وميليشياتها وفي المشاركة بالانتخابات من خلال الإدلاء بأصواتهم لصالح هذا الحزب أو ذاك ممن وفروا لهم فرص التعيين، ولم يقتصر الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات البرلمانية أو انتخابات مجالس المحافظات بل تم استعمالهم لحشد الأصوات لصالح من يريدون في انتخابات مجالس النقابات وانتخابات النقباء، كما استعملوا بشكل خاص عام 2019 من خلال قيام أحزاب السلطة وميليشياتها بتهديدهم بالحرمان من مواردهم الشهرية في حالة مشاركتهم في ثورة تشرين بعد أن لمست السلطة وأحزابها وميليشياتها تأييدًا واضحًا من قبل شريحة الموظفين للثوار الشباب في كل ساحات المدن العراقية، وقد توافد الملايين منهم على تلك الساحات، فاستطاعوا من خلال ذلك الاستبداد والتهديد من منع الموظفين وإجبارهم على التراجع عن ذلك التأييد حفاظًا على مواردهم المالية.
وهكذا فإن كارثة الاحتلال الأمريكي- الإيراني للعراق، قد أفرزت طبيعة وتفكيرًا وتصرفات وردود فعل عراقي إزاء ذلك الحدث الجلل، فتميزت كل مجموعة بأفعالها وكتبت تأريخها بكل وضوح أمام الجميع، ولم يعد أي ادعاء من هذا الطرف أو ذاك بتزوير هذا التأريخ مقبولًا، لاسيما أن قياسات العمل والأفعال مكشوفة عند كل مجموعة. وعندها لا يستوي من قاوموا العدوان والاحتلال وقدموا أرواحهم وما يملكون دفاعًا عن القيم العالية ومن هادنوا وكانوا خدمًا وأجراء عند المحتلين. ولا يستوي بناة الأوطان ومن يدمرونها وينهبون مواردها ويشيعون الفساد والتبعية. وبالتالي لا يستوي من هو عراقي ومن يدعي العراقية.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى