أخبار الرافدين
د. رافع الفلاحي

الرد الإيراني.. فيلم هابط بامتياز

المختصون في شؤون السينما إنتاجًا وإخراجًا وتجسيدًا، يجدون أن أرشيف السينما العالمية منذ قرن وحتى الآن لا يحتوي أكثر من عشرة بالمائة من الأفلام التي تستحق المشاهدة الفعلية بما لها من صلة حقيقية بواقع حياة الناس وتجاربهم والتحديات التي تواجههم، ولا يمكن استثناء حتى الأفلام الكوميدية التي تستحق هذا الوصف كونها تلامس مشاعر حقيقية في نفوس المشاهدين وتعمل على تحريكها باتجاه (السخرية الإيجابية) التي تدفع المتلقين للضحك على واقع ثقيل وكئيب أحيانًا تفرضه أساليب الحياة الصعبة والكدح الذي يجبر الإنسان عليه كجزء من اختبارات تصهره وتخرج أجمل ما فيه، وبما يمكن الناس من التأسيس لرؤية أقل تشددا في التعاطي مع الأحداث ومن دون الانجرار إلى مناطق الياس أو التطرف.
من هنا فإن الأفلام الهابطة التي تشكل نحو 90 بالمائة من أرشيف السينما العالمية، تنطوي على موضوعات فقيرة في ذائقتها ومغالية في بهرجتها.. فيها من الابتذال والبدائية والفظاظة والذوق الرث والغلو والمبالغة حدًا واسعًا من البذاءة في أحيان كثيرة. وهي أفلام غالبيتها تشترك في عنصر الاستنساخ والتكرار الفج وبما يدل بوضوح على رخصها.
وما الرد الإيراني على إسرائيل الذي تبع ما أطلقت عليه طهران تسمية “الصبر الاستراتيجي” عقب قيام الطائرات الإسرائيلية بقصف مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من نيسان وحولته إلى ركام، مما أسفر عن مقتل 11 شخصًا بينهم اثنان من قادة فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني المتحكم بشؤون إيران وتوجهاتها، إلا فيلمًا من تلك الأفلام الهابطة التي يراد منها تحويل حياة الناس إلى كذبة وتمرير الأوهام القاتلة كعلاج لمشاكل وأزمات وكوارث لن تزول أبدًا بالكذب والتدليس .
فبعد تلك الضربة، خرجت إيران بردود فعل اقتصرت على التوعد بأن هذا الفعل لن يمر دون رد وفقًا لما قاله الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، الذي وصف الضربة الإسرائيلية “بالتصرفات غير الإنسانية” وأنها “غزو عدواني وخسيس وانتهاك صارخ للقواعد الدولية”، فيما كان وزير خارجيته حسين أمير عبد اللهيان يطالب المجتمع الدولي بتقديم ما سماه “ردًا جديًا” على تلك العملية الإسرائيلية. وكالعادة كانت إيران تعلن إنها ستقرر نوع رد الفعل والعقاب الذي ستتخذه ضد إسرائيل.
ومع مرور الوقت وغياب ذلك الرد الذي توعدت طهران به، تولت أجهزة إعلام (تتبنى الفكر والسياسة الإيرانية) الدفاع والترويج للنظام الإيراني، وراح المطبلون في القنوات الفضائية وعلى وسائل التواصل الاجتماعي والكثير من الصحف، يسوقون لحملة صدعوا فيها رؤوس المتلقين بالحديث عن “الصبر الاستراتيجي” الذي ينم كما كانوا يروجون عن رؤية إيرانية حصيفة ورجاحة عقل وتدبير وحكمة، والتي أسفرت عن نفسها ليلة الثالث عشر على الرابع عشر من نيسان حين أعلنت تل ابيب وقد سبقتها أو تأخرت عنها قليلا واشنطن ولندن، بأن إيران قد أطلقت باتجاه إسرائيل عشرات المسيرات والصواريخ، فيما لم تكن إيران قد بدأت فعليا بذلك مما جعل المتابعين والمراقبين (غير العارفين بالأفلام الهابطة) يجدون غرابة في ذلك الموقف لكنهم لم يتوقفوا عنده واستمروا بمتابعة ذلك “الرد الإيراني المزلزل” الذي راح العديد من الأبواق الإيرانية تتحدث عن نتائجه حتى قبل أن تصل المسيرات والصواريخ الإيرانية المزعومة إلى الأرض، فكانوا يصفونه بالرد المزلزل والمدمر والعنيف والشامل، فيما كانت الأجواء الإسرائيلية والدولية تبدو على المستويات السياسية والإعلامية لا توحي بأي حالة من حالات الطوارئ والتصعيد وأجواء الحرب، حتى أن من ذهبوا بسرعة لمتابعة أخبار (بي بي سي البريطانية) و (سي أن أن الأمريكية) باعتبارهما في مقدمة الهيئات الإخبارية التي طالما اهتمت بأخبار الحروب وتفاصيلها ولها شيء من القدرة على نشر أخبار خارجة من دوائر القرار البريطانية والأمريكية، لم يجدوا في تلكما المحطتين الإخباريتين أي أجواء توحي بأن هناك حربًا تلوح في الأفق وأن هناك أجواء ساخنة تستدعي الانشغال والتوتر والتحسب، الأمر الذي حيّر المتابعين وجعل الكثير منهم يشكون بأن أمر المسيرات والصواريخ الإيرانية هو مجرد محاولة من البعض لما يسمى “ركوب الترند” أي تحصيل أكبر عدد من المتابعين في وسائل التواصل الاجتماعي وما يعود به ذلك على صاحبه من عوائد مادية، وكان لاستمرار بث القنوات التلفزيونية الإسرائيلية لبرامجها المعتادة وظهور البث المباشر على شاشاتها الذي يبين آلاف الإسرائيليين المعارضين لسياسات نتنياهو في حربه ضد الفلسطينيين في غزة أو غيرها من السياسات، وهم في شوارع تل ابيب ولم يتم تفريقهم أبدا مثلما ادعت بعض القنوات الفضائية وخاصة القنوات العربية منها، ما جعل الأمور تبدو أكثر غرابة وأكثر دلالة على أن ما يجري كان فيلمًا هابطًا يتولاه مخرج فاشل يكرر سيناريو طالما نال سخرية الناس وتندرهم قبل فترة ليست بالبعيدة حين قرعت طبول الحرب الإيرانية عام 2020 توعدًا في الانتقام برد مزلزل وصاعق على مقتل الجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني عندما كان في بغداد، والذي قامت الولايات المتحدة الأميركية بتصفيته بناءً على أمر رسمي وعلني من الرئيس دونالد ترامب، وبعد عدة أيام على تلك العملية الأمريكية، جاء ما قالوا إنه الرد الإيراني حين أطلقت طهران فجر يوم الثامن من كانون الثاني عام 2020 عدة صواريخ بالستية باتجاه عدد من القواعد الأمريكية في العراق، وراحت وسائل الإعلام الإيرانية والعديد من وسائل الإعلام والدعاية المؤيدة لإيران وبجوقة المطبلين المعروفين، يؤكدون بأن عددًا كبيرا من الجنود الأمريكيين قد قتلوا، فيما كانت وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) تنفي ذلك جملة وتفصيلا..
وتولى ترامب في حينها التعليق قائلا بهدوء وسخرية مبطنة “كل شيء على مايرام”.
ولم تمض إلا فترة ليخرج ترامب على وسائل الإعلام ليقول فاضحًا ذلك الفيلم الهابط “لقد كنت أعلم بكل ما كان يجري وجرى. لقد طلبت إيران منا السماح لها بتمرير ردها على مقتل سليماني حفاظًا على ماء وجهها، مؤكدة لنا بأنها ستطلق بعض صواريخها على مناطق خالية من الجنود الأمريكيين وأنها تتعهد بعدم إحداث أي ضرر” وهو ما وافق عليه ترامب ونفذ فعليًا، ليؤكد عدم الرغبة الأمريكية في الدخول في حرب ومواجهات ساخنة مع إيران التي لا تحبذ من جانبها ولا تجد من مصلحتها الدخول في نزاع مسلح مع الولايات المتحدة الأمريكية (الشيطان الأكبر) وهي تعرف مسبقًا بأن مثل هذا النزاع سيكون كارثيًا عليها، وهي المدركة تماما أن نظامها غير مستهدف أمريكيًا ولا حتى إسرائيليًا ابدا، وكان ترامب ومن بعده بايدن يؤكدون في أكثر من مناسبة أن بلادهم لا تستهدف تغيير نظام الحكم في إيران. فالأخير ليس خصمًا، بل هو أداة مهمة في تمرير السياسات الأمريكية في عموم المنطقة وطالما استخدم كفزاعة لابتزاز أنظمة عديدة في المنطقة وخاصة في الخليج العربي، وما يفعله ذلك النظام في العراق يشكل حالة من القبول في دوائر السياسة والاستخبارات الأمريكية والغربية، كونه يبقي العراق ضعيفًا منزوعًا من كل قدرة على النهوض وعلاج جراحات اكثر من عقدين مضت تحت مظلة ما جرى من احتلال أمريكي للعراق في عام 2003، والذي أسفر عن تخادم أمريكي- إيراني لتحقيق هذا الهدف وتأمين مشروع كان من أولوياته تمكين إسرائيل في الحصول على شرعية الوجود وبناء علاقات مستقرة مع كل بلدان المنطقة وتأمين الثبات والاستقرار بعيدًا عن حقوق الفلسطينيين والعرب في وطن فلسطيني مستقل وحر.
وهكذا، فأن ما حصل ليلة 13/14 نيسان كان فيلما إيرانيا هابطًا بكل المعايير وبإخراج أمريكي – بريطاني -غربي وإسرائيلي، لا يتناسب ابدًا حتى مع كل معايير الأفلام الهابطة.. فقد كان مفضوحًا وكاريكاتوريًا مقرفًا، وهو يعلن عن كل مظاهر الرثاثة والسفاهة والعقول الخاوية التي تعتقد أنها تملك الذكاء والقدرة على خداع الناس وتضليلهم.. والتي ختمها قول مضحك جاء على لسان مندوب إيران في الأمم المتحدة “نعتبر الأمر منتهيًا وأن ارتكبت إسرائيل خطأ آخر فسيكون ردنا أكثر حدة”.
ولا عزاء لمن يطبلون لإيران ولمن يجدونها العون في حرب الفلسطينيين دفاعًا عن حياتهم ووطنهم ومقدساتهم ضد العدو الإسرائيلي في غزة، اذا ما صدقوا بالأفلام الهابطة وسلموا بأنها حقيقية وناجحة، ولا عزاء لمن يجدونها حليفًا عقائديًا يعمل على مساعدة العراقيين في بناء وطنهم.

اظهر المزيد

مواضيع ذات صلة

شاهد ايضًا
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى